والخلاف فيه غير محفوظ، فلا معنى لإطالة القول فيه، على أن عموم قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْراً}، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( التراب كافيك ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسسه ببشرتك ))، يدل على ذلك ، لأنَّه لم يستثن المسخن من غيره.
مسألة [ في الوضوء بالماء المغصوب ]
قال القاسم عليه السلام: ولا وضوء بالماء المغصوب.
وهذا مما نص عليه القاسم عليه السلام في كتابه المسمى (كتاب الطهارة).
والذي يدل على ذلك، قول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}.
ووجه الإستدلال منه أنَّه قد ثبت أن المراد بالآية هو النهي عن استهلاك أموال الغير دون الأكل فقط، وقد ثبت على أصولنا أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، وأنه لا يقع موقع الصحيح، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن المتوضئ بالماء المغصوب مستهلك له ـ وقد نهى عن استهلاك ذلك الماء ـ ثبت أن الإستهلاك له بالتوضئ لا يقع موقع الصحيح، فلا يكون فاعله متوضئاً بالشرع.
ويدل على ذلك أيضاً أنَّه قد ثبت كون الوضوء قربة بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: (( الطهور شطر الإيمان ))، وما روي عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من قوله: (( تردنَّ عليّ غراً محجلين من الوضوء ))، وغير ذلك مما ورد في هذا الباب، ومما يُبين من بعد؛ أنها عباده مفتقرة إلى النيه كسائر العبادات، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن المتوضى بالماء المغصوب عاصٍ بما يفعله، وثبت أنَّه لا يكون متوضئاً؛ لأن المعصية لا تكون قربة وعباده.(2/55)
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون هذه المعصية تسقط وجوب تلك القربة، فإن مثله قد يوجد، ألا ترى أن من قطع رجلَ نفسه، يسقط عنه وجوب القيام في الصلاة، وكذلك من أدى زكاته في الصلاة المفروضة قاطعاً لها يكون عاصياً، ومع ذلك يسقط عنه وجوب الزكاة.
قيل له: لسنا نقول إن ذلك مستحيل أن يرد به الشرع على الحد الذي سألت عنه، أو تتعلق به المصالح، لكنا نقول: إن الأصل امتناع ذلك، والقائل به يحتاج إلى دليل شرعي، ولم تدل الدلالة على أن هذه المعصية أسقطت وجوب تلك القربة، فوجب القضاء ببقاء وجوب تلك القربة على ما كانت.
وأيضاً فإنه مقيس على الماء النجس في أنَّه لا يجوز التطهر به؛ بعلة أن المتطهر به ممنوع من التصرف فيه، فكذلك الماء المغصوب.
فإن قاسوه على الماء الذي ليس بمغصوب كان قياسنا مرجحاً، للنقل؛ لأنَّه ينقل الماء عما كان عليه، إذ من شان الماء أنَّه يقع به التطهر، وكان أيضاً مرجحاً بالحظر والاحتياط.(2/56)
باب القول في الاستنجاء
يستحب لمن قصد الغائط أو البول أن لا يكشف عورته حتى يهوي للجلوس، وأن يتعوذ بالله(1) من الشيطان الرجيم.
وهذا قد نص عليه في أول (الأحكام) (2).
والوجه في ذلك أن كشف العورة من غير ضرورة محرم في الملأ، ومكروه في الخلاء، فاستحب أن لا يكشف عورته إلاَّ عند الضرورة، وهو بعد أن يهوي للجلوس، ليكون قد سلم مما حرم أو كره.
وهذا يدل على أنه يكره البول قائماً، لأنَّه إذا منع من كشف العورة إلاَّ بعد أن يهوي للجلوس، فقد تضمن ذلك المنع من البول قائماً.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا علي بن داود بن نصر، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أنس، أنه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء، لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض.
فقد صح بهذا الخبر، ووضح ما اختاره الهادي عليه السلام.
فأما التعوذ: فلِما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن هشيم بن بشير، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء، قال: (( أعوذ بالله من الخبث والخبائث )).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن قاسم الشيباني، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن هذه الحشوش مُحتضَرة، فإذا دخل أحدكم فليقل: اللهم، إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )).
وروى محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، أنَّه كان إذا دخل المخرج، قال: (( بسم اللّه، اللهم، إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم )).
مسألة [ في استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة ]
__________
(1) سقطت من (ب).
(2) ذكره في الأحكام 1/48.(3/1)
ولا يجلس مستقبل القبلة ولا مستدبرها. قال القاسم عليه السلام: وهو في الفضاء أشد.
وهذه الجملة قد نص عليها القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي). ونص عليها الهادي عليه السلام في كتاب (الأحكام) و(المنتخب) (1) جميعاً.
فأما القاسم عليه السلام، فقد صرح بأن النهي عن ذلك على سبيل الكراهة دون التحريم، وإليه أشار الهادي عليه السلام في (الأحكام)، فأما في (المنتخب) فإنه أومأ إلى التحريم. ووجه تحريمه:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، أنَّه سمع أبا أيوب الأنصاري، يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تستقبلوا القبلة لغائطٍ ولا لبول، ولكن شرّقوا أو غرّبوا )). فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد بُنيت نحو القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله(2).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قالوا لسلمان: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِراءة! قال: أجل، قد نهانا أن نستقبل القبلة بالغائط أوالبول.
ووجه كون النهي الوارد في هذا الباب على الكراهة:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي دواد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني محمد بن عجلان، عن محمد بن يحيى، عن واسع بن حبان، عن ابن عمر، أنَّه قال: يتحدث الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، بحديث وقد اطلعت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من ظهر بيته(3) ـ وهو يقضي حاجته محجوزاً عليه بِلَبِن ـ فرأيته مستقبل القبلة.
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/48. وفي المنتخب ص22.
(2) في (ب): فينحرف عنها ويستغفر الله.
(3) في (ب): بيت.(3/2)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكروا استقبال القبلة بالفرج، فقال عراك بن مالك: قالت عائشة: ذكر عند رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن أناساً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( أو قد فعلوا ذلك؟ حولوا مقعدتي نحو القبلة )).
وفي العلماء من فَصل بينَ الإستقبال والإستدبار، فحذر الإستقبال، وأباح الإستدبار، وهو أبو حنيفة وأصحابه؛ وذلك لا وجه له، لأن النهي ورد فيهما جميعاً، وحديث ابن عمر وعراك ورد عن عائشة في الإستقبال، وأبو حنيفة يمنع منه، على أنَّ الإستقبال إذا ثبت المنع منه، كان الإستدبار مثله؛ بعلة أنَّه أفضى بالفرج إلى القبلة عند قضاء الحاجة، ولأن الغرض في ذلك تعظيم القبلة فالاستقبال كالاستدبار.
وذهب الشافعي إلى أن الحظر في الاستقبال والاستدبار جميعاً إذا كانا في الفضاء، وأباحهما في العمارة.
وكان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يُخرِّج مذهب أصحابنا على ذلك، وقد أشار إليه القاسم عليه السلام بقوله: وهو في الفضاء أشد.
والوجه في ذلك أن الفضاء كله يجوز أن يكون موضعاً للعبادة والصلاة، وليست(1) العمارة كذلك، لأن الأَخلِيَة منها لا تجوز الصلاة فيها، فالموضع الذي يختص بقضاء الحاجة، والمنع من الصلاة فيه لا يمتنع أن لا يُراعَى فيه حكم القبلة في الاستقبال والاستدبار، وليس كذلك الفضاء؛ لكون جميعه مصلى، على أن استقبال القبلة في الفضاء لا خلاف في المنع منه، إلا ما يحكى عن صاحب الظاهر، وما لا خلاف فيه أولى بالتشدد فيه، فلذلك قال القاسم عليه السلام: إنَّه في الفضاء أشد.
وفيه أيضاً أن حديث الترخيص وهو حديث ابن عمر وحديث عراك، عن عائشة وردا في العمارة.
__________
(1) في (أ): وليس.(3/3)