فدل ذلك على أنها تكون صدقة ما دام ملك المتصدق عليه بها قائماً.
ووجه آخر وهو أن تملكه الصدقة لما صادف حال الغنى لم يستقر.
مسألة
قال: ولا يجوز أن يعطي أحد شيئاً من صدقته أباه ولا أمه، ولا ولده، ولا مملوكه، ولا مدبره، ولا أم ولده، إلاَّ أن يكون قد بت عتقهم، ولا أحداً ممن تلزمه نفقه، فأما من لم تلزمه نفقتهم من أقاربه وذوي أرحامه، فلا بأس أن يعطي عم الرجل من زكاته، وهم أولى بها من غيرهم، وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
أما الأبوان والأولاد والمملوك والمدبر وأم الولد، فلا خلاف أنَّه لا يجوز للرجل أن يعطيهم شيئاً من زكاته.
وأما سائر من تلزمه نفقتهم، فالوجه في أنهم لا يعطون من الزكاة شيئاً، أنَّه لا خلاف في الأبوين والولد أنهم لا يعطون، فكذلك سائر ما ذكرنا؛ لعلة لزوم نفقاتهم، وكل من لزمته نفقته لا يجوز أن يعطيه شيئاً من زكاته؛ لأنَّه يكون مخففاً عن نفسه، ومنتفعاً به، ولا يجوز للإنسان أن يجعل زكاته نفعاً لنفسه.
فإن قيل: أليس يجوز له أن يدفع زكاته إلى من له عليه دين، ثم يأخذها من منه بحقه، فقد جاز له الانتفاع بزكاته.
قيل له: هذا لا ينتفع بنفس إعطاء الزكاة، وإنا انتفع بما سواه، ومن ذكرنا ينتفع بنفس إعطائه؛ لأنَّه يسقط عن نفسه ما كان واجباً عليه، فيكون قد حصل له على التحقيق الانتفاع بزكاته، وهذا لا يجوز.
فإن قيل: فجوزوا أن يعطيه من زكاته اليسير الذي مثله لا يخفف عنه.
قيل له: ما فرق أحد في هذا الباب بين اليسير والكثير، فإذا ثبت أن الكثير لا يجوز أن يعطى، ثبت أن لا يجوز أن يعطي اليسير، فأما من لم تلزمه نفقته من أقاربه، فالوجه في جاوز إعطائها إياه أنَّه لا خلاف في أنَّه يجوز أن يعطي الأباد منهم، وكذلك الإدنين، والمعنى أنَّه لا تلزمه نفقتهم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لزينب زوجة ابن مسعود أن تجعل زكاتها في بني أخيها.(32/13)
وقلنا: إنهم أولى من غيرهم؛ لأن إعطاءها إياهم يجمع بين كونه أداء الواجب صلة الرحم، وقد دعا اللّه سبحانه العباد إليها ومدحهم سبحانه عليه.(32/14)
باب القول في صدقة الفطر
يجب على الرجل إخراج صدقة الفطر عن نفسه، وعن كل عيال كان له من المسلمين، من حر أو عبد، صغير، أو كبير، ذكر أو أنثى.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
والأصل فيه ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد اللّه بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه أمر بصدقة الفطر على كل صغير وكبير، حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر.
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على كل صغير وكبير، حر وعبد، ذكر وأنثى ممن تمونون، صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من شعير على كل إنسان.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((صدقة الفطر على المرء المسلم يخرجها عن نفسه، وعن من هو في عياله، صغيراً كان أو كبيراً ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً)).
قال أبو حنيفة: يخرجها عن العب الكافر، وعندنا لا تخرج إلاَّ عن المسلم.
ووجه ما ذهبنا إليه ما: روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلمك ((أمر بصدقة الفطر على كل صغير وكبير، حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين))، فنبه على أنها تختص المسلمين.
وروى أبو داود في السنن بإسناده عن عكرمة، عن ابن عاس، قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فدل على أنها تختص من كان من أهل الطهرة، والكافر ليس من أهل الطهرة، ولا من أهل الصيام، فثبت أنَّه لا يجب أداؤها عنه.(33/1)
وليس لأحد أن يقول: إن هذا قول ابن عباس، ويجوز أن يكون رأياً رآه؛ لأنَّه أخبر عن الوجه الذي من أجله فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك مما ليس للرأي فيه مجال، بل لا يجوز أن يكون قال ذلك إلاَّ توقيفاً.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض صدقة الفطر صاعاً من شعير أو تمر، على الصغير والكبير، والحر والمملوك، وعمومه يوجب أداؤها عن المملوك الكافر.
قيل له: هذا مخصوص بما ذكرناه، وبما نذكره من القياس، وهو أنَّه لا خلاف أن الكافر لا يؤدي عن نفسه، فكذلك عن العبد الكافر، والمعنى أنَّه كافر، وكل كافر لا تؤدى عنه الفطرة، وكذلك لا خلاف أنَّه لا يؤديها عن أبيه الذمي الفقير الذي يمونه إذا كان كافراً، وإن شئت قلت: إنَّه ليس من أهل الطهرة على وجه من الوجوه، وليس يلزم عليه الطفل؛ لأن من أهل الطهرة حكماً، ويقاس على عبد التجارة إذا كان كافراً؛ إذ لا خلاف أنَّه لا يؤدى عنه زكاة الفطر؛ والعلة ما تقدمت.
فإن قيل: إذا كان المولى هو المؤدي، وهو الذي تلزمه الزكاة عن العبد دون العبد، فوجب أن يكون المعتبر به هو المولى دون العبد، كما أن المولى هو المعتبر به في أداء الزكاة عن العبد إذا كان للتجارة دون العبد.
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، بل لا بد في الموضعين من اعتبار حال المؤدى عنه، وإن كان المؤدي الذي تلزمه معتبراً به، ألا ترى أن عبد التجارة يعتبر في قيمة النصاب والحول، إذا كان الاعتبار في مال التجارة بهما؛ لأن الزكاة فيه تتعلق بالنصاب والحول، وكذلك العبد المؤدى عنه زكاة الفطر، يجب أن يعتبر، فيراعى فيه الإسلام؛ لأن الإسلام هو المراعى في زكاة الفطر.
فصل
الذي يقتضيه قول يحيى بن الحسين عليه السلام: تلزم زكاة الفطر عن كل من كان له عيال: أن الرجل تلزمه زكاة الفطر عن زوجته. وحكى ذلك أبو العباس الحسني رحمه اللّه تعالى عنه في (النصوص).
والأصل فيه:(33/2)
حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((صدقة الفطر على الرجل المسلم، يخرجها عن نفسه، وعن من هو في عياله، صغيراً كان أو كبيراً ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً)).
وحديث جعفر، عن أبيه، قال: ((فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر على كل صغير وكبير، حر وعبد، ذكر وأنثى ممن تمونون)).
وروي عن أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر أو شعير، على كل حر وعبد ممن تمونون)).
فدلت هذه الأخبار على أنها تلزم الرجل على كل من يمونه، يكون في عياله، ولا شك أن الرجل يمون زوجته، وتكون في عياله، فوجب أن يلزم إخراجها عن امرأته.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((على كل حر وعبد، ذكر وأثنى))، وألزمها نفسها بهذا الظاهر، وإذا ثبت أنها لازمة، ثبت أنها لا تلزم زوجها عنها.
قيل له: قد فسر ذلك صلى الله عليه وآله وسلم بأن قال: ((ممن تمونون))، وبقوله: ((يخرجها عن نفسه، وعن من هو في عياله))، فصرح بأنها تلزم من يمونه ويعوله.
يحقق ذلك أن في خبرهم على كل حر وعبد ذكر وأنثى، ولا خلاف أنها لا تلزم العبد، وإنما تلزم مولاه عنه، والظاهر تناول العبد على حد تناوله الأنثى.
ومن جهة النظر لا خلاف أن الرجل يخرجها عن عبده المسلم، فكذلك عن زوجته، والمعنى أن كل واحد منهما يلزمه مؤنته، مع أنها من أهل الطهرة، ويمكن أن تقاس بهذه العلة على الولد الصغير الذي يلزمه مؤنته، ويكشف صحة هذه العلة أنَّه إذا بلغ وخرج من مؤمنته، لم يلزمه زكاة الفطر عنه.
فإن قيل: العلة في العبد والابن الصغير أن له عليهما ولاية.
قيل له: لو سلمنا ذلك لم يضرنا، وقلنا بالعلتين جميعاً، على أن علتنا أولى؛ لأن النص نبه عليها، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((..ممن تمونون))،، وقوله: ((..عمن هو في عياله)).(33/3)