قيل له: إنَّه وإن كان من وجه على ما قلت، فإنه معاونة على الإثم والعدوان من وجه آخر، وذلك أنهم إذا علموا أنا نعاونهم على قضاء ديونهم التي لزمتهم في المعاصي، يكون ذلك أدعى لهم إلى الاستمرار على الاستدانة على المعاصي، فيكون ذلك إعانة لهم على المعاصي وداعياً لهم إليها، والشيء إذا حصل فيه عون على الحق من وجه وعون على الباطل من وجه، كان التغليب للباطل، كما نقول في الشيء إذا حصل فيه من وجه من وجوه الحسن ووجه من وجوه القبح، أن يكون الحكم للقبح، وكما نقول في وجه الحظر، وجه الإباحة إذا اجتمعا في الشيء أن الحكم للحظر.
مسألة
وأما ما يصرف إلى السبيل فوجهه أن يصرف في المجاهدين وما يحتاجون إليه من السلاح والكراع، ويجوز صرف بعضه إلى بناء المساجد، وحفر القبور، وبناء السقايات، وتكفين الأموات إن فضل عما سواه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
غير ما ذكرناه من صرف بعضه إلى بناء المساجد، وحفر القبور، وبناء السقايات والتكفين، فإنه منصوص عليه في (المنتخب) فقط.
ولا خلاف في صرفه إلى المجاهدين، واختلفوا في سائر ما ذكرناه، ووجهه أن جميع ذلك يصح أن يقال في أنَّه سبيل من سبيل الله، فوجب أن يكون الاسم يعمه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((الحج والعمرة من سبيل الله))، فصح أن سمة سبيل اللّه ينطلق على غير الجهاد.
مسألة
قال: وبنوا السبيل: فهم مارة الطريق والمسافرون الضعاف منهم، وإن كانت لهم أموال في بلدانهم وأهاليهم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ونص في (المنتخب) على: أنهم مارة الطريق، وهؤلاء ـ أيضاً ـ يأخذون بالفقر؛ لأنَّه لا خلاف أنهم إذا كانوا أغنياء لا يأخذون.(32/8)
وقلنا: إنهم وإن كانت لهم أموال في أهاليهم فهم فقراء في الحال، إذا كانت أيديهم لا تصل إليها وإلى الانتفاع بها؛ لأنَّه لا خلاف أن من كان له مال فاغتصبه السلطان أو أذاه اللصوص وقطاع الطريق حتى احتاج ولم يمكنه الانتفاع بماله، أنَّه يحل له الصدقة، فكذلك المسافر المحتاج الذي لا يمكنه الانتفاع بماله، والمعنى أنه لا يمكنه الانتفاع بماله.
مسألة
قال، والذين لا تحل لهم الصدقة على وجه من الوجوه، فهم بنوا هاشم، وهم: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
وإنما ذكر يحيى عليه السلام البطون الأربعة؛ لأنهم الجل والمعظم من بني هاشم، وإلا فسبيل الحرث بن عبد المطلب سبيلهم؛ لأنهم بنو هاشم كسائر هؤلاء البطون، وقرب الجميع من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالعمومة قرب واحد.
والأصل في هذا: الأخبار المروية عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب، فمنها ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي، قال: قلت للحسن بن علي عليهما السلام: ما تحفظ من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة فجعلتها في فيّ، فأخرجها رسول اللّه بلعابها، فألقاها في التمر، فقال رجل: يا رسول اللّه، ما كان عليك من هذه التمرة لهذا الصبي؟ فقال: ((إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة)).(32/9)
وأخبرنا علي بن إسماعيل، قال: حدثنا الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام، قال: حدثنا محمد بن منصور، عن محمد بن عمر الكندي، عن يحيى بن آدم، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن بشير بن عاصم، عن عثمان بن أبي اليقظان، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قال علي عليه السلام: (إن اللّه حرم الصدقة على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فعوضه سهماً من الخمس عوضاً مما حرم عليه، وحرمها على أهل بيته خاصة دون أمته، فضرب لهم مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سهماً عوضاً عما حرم عليهم).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا سعيد وحماد ابنا زيد، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن عبد اللّه بن عبيد الله بن عباس، قال: دخلنا على ابن عباس فقال: ما اختصنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بشيء من دون الناس إلاَّ بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل من الصدقة، وأن لا ننزي الحمير على الخيل.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال لأبي رافعك: ((الصدقة لا تحل لآل محمد، ومولى القوم منهم)).
والأخبار في هذا كثيرة مشهورة، كرهنا ذكر جميعها للاستطالة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه تصدق على آرامل بني عبد المطلب.
قيل له: يحتمل أن يكون ذلك من التطوع، ويحتمل أن يكون أضافهن إلى بني عبد المطلب لا من جهة النسب.
فأما بنو المطلب، فقد نص يحيى عليه السلام على أنَّه لا حظ لهم في الخمس، فدل ذلك على أن الصدقة تحل لهم.
والأصل في هذا أن المطلب هو أخوا هاشم، كما أن عبد شمس أخو هاشم، وهم بنوا عبد مناف، ولا خلاف أن بني أمية تحل لهم الصدقة، وأمية هو ابن عبد شمس، فلما ثبت ذلك ثبت أنها تحل لبني المطلب؛ لأن قربهم من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مثل قرب بني أمية.
مسألة(32/10)
قال: ومن احتاج منهم ـ يعني بني هاشم ـ واضطر إلى أكل شيء من الصدقة، فله ذلك على طريق الاستقراض، فإذا وجد مقدار ما أكل منها رده إلى أهله، وإن كانت الضرورة قد بلغت به إلى حال يحل له معها أكل الميتة.
هذا منصوص عليه في (الأحكام).
والوجه فيه أنَّه قد ثبت تحريم الصدقة على بني هاشم، وأنه لا حق لهم فيها، فمن اضطر منهم إلى أكل شيء من الصدقة ضرورة شديد،ة كان له أن يتناول منها بالعوض، كالمضطر إلى ملك غيره، له أن يتناول منه، ويلزمه التعويض متى أمكنه، فكذلك المضطر إلى الصدقة من بني هاشم.
مسألة
قال: ولا يجوز لأحد أن يأخذ من الصدقة، وله من أي أصناف الأموال ما تجب فيه الصدقة، وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ووجهه قول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنِ} وقد ثبت أن من ذكرنا غني لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: ((أعلمهم أن عليهم في أموالهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم))، فجعل المأخوذ منه الصدقة غنياً، والمردود عليه فقيراً، ففي هذا أن كل من أخذت منه الصدقة غني حكماً، فلا يجوز أن يعطى من الصدقة شيئاً كسائر الأغنياء لحصول اسم الغنى له.
فإن قيل: لا يمتنع من جهة العرف أن يسمى الرجل فقيراً إذا كان ضعيفاً في نفسه، وكانت عائلته كثيرة، وإن كان له ما يجب فيه الصدقة، بل يبعد أن يسمى من كانت هذه صفته غنياً.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الحال من جهة العرف ما ذكرت، إلاَّ أن الشرع قد جعل له سمة أغنى بما ذكرناه من الخبر وأسماء الشرع أولى أن يحمل عليها أحكام الشرع من أساء العرف، فصح ما ذنبنا إليه.
على أنَّه لا خلاف أن من له الأموال الكثيرة لا يجوز أن يعطى من الصدقة شيئاً، وأن من له اليسير منها يجوز أن يعطى منها، ولم يكن بد من فرق، فكان أولى الفقر ما نبه الشرع عليه، وقد نبه على أن المأخوذ منه غني، والمردود عليه فقير، فصح ما ذهبنا إليه.
فصل(32/11)
لم يفرق أصحابنا بين من كان قوياً في جسمه، وبين من كان ضعيفاً من الفقراء، وهو مذهب أبي حنيفة.
والوجه في ذلك عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنِ} فعم ولم يخص، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم))،، فلم يخص فقير من فقير.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عل صدقة بني زريق لسلمة بن صخر، وكان سلمة قوياً في بدنه.
فإن قيل: إن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله من الصدقة، فرءاهما جلدين، فصعد البصر فيهما وصوبه، وقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب)).
قيل له: هو محمول في القوي على الكراهة؛ بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن شئتما أعطيتكما))، ولو كانت محرمة لم يقل: إن شئتما أعطيتكما؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعطي الحرام بأن يشاء المعطي له، وهكذا يحمل قوله: ((لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي))، أو يحمل على المسألة.
مسألة
قال: ولا يجوز أن يعطى أحد من الفقراء، إلاَّ دون ما يجب فيه الزكاة من أي الأصناف كان.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل يه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تحل الصدقة لغني))، ولو أعطيناه ما يوجب الغنى، كنا قد أحللنا الصدقة للغني، وقد دللنا على أن حصول القدر الذي تجب فيه الزكاة يوجب الغنى.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن الصدقة إذا قبضها المستحق لها خرجت عن أن تكون صدقة.
قيل له: هي صدقة ما دام ملكه قائماً فيها بدلالة ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: تصدق عليَّ بريرة بصدقة، فأهدت منها لعائشة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ((هو لنا هدية، ولها صدقة)).(32/12)