وإن شئت حررت القياس، فقلت لا خلاف أن بعض الصدقات يجوز دفعه إلى بعض الفقراء، وإن كانت الآية اقتضت التعميم فيهم، فكذلك يجوز دفعها لسنة واحدة، أو أكثر من ذلك إلى بعض الأصناف؛ والعلة أنه دفع الصدقة إلى من له فيها حق، ولا يمكن نقض هذه العلة بما نقوله: إن الفقير الواحد لا يدفع إليه ما يجب فيه الزكاة، وما نقوله: إن دفعها إلى الفقراء مع مطالبة الإمام بها لا يجزي؛ لأنا عللنا بجعل حكم بعض الأصناف حكم بعض الفقراء، فما جاز في الأصل جاز في الفرع، وما امتنع في الأصل امتنع في الفرع.
فإن قيل: فالعامل عندكم لا يأخذ بالفقر.
قيل له: الذي يأخذه العامل يجري مجرى الأجرة على عمله، ولا نقول: إن له سهماً في الصدقة، وكذلك نقول في المؤلفة قلوبهم: إنَّهم لا يستحقونها، وإنما يعطون ذلك على جهة الصلاح للمسلمين، فأما الاستحقاق، فهو للفقراء فقط.
فإن قيل: فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((لا تحل الصدقة لغني إلاَّ لخمسة..))، وذكرهم فيهم الغازي في سبيل الله، فبان أنَّه يستحق لا بالفقر؛ لأنَّه إستثناء من جملة الغنى ، فجيب أن يكون غنياً.
قيل له: قد قال كثير من أصحابنا أن هذا الاستثناء من غير جنسه، وهو بمعنى، لكن كأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا تحل الصدقة لغني، لكن لغاز في سبيل الله، وهذا وإن كان صرفاً للكلام عن ظاهره، فلا يمتنع ذلك بالأدلة التي قدمناها.
يؤكد ذلك ما روي عنه عليه السلام، أنَّه قال: ((لاحظ لغني فيها ولا لقوي مكتسب)).
مسألة
قال: والأصناف الثمانية هم: الفقراء، وهم الذي لا يملكون إلاَّ المنزل والخام، وثياب الأبدان، وما أشبه ذلك.
والمساكين، وهم: الذي يربون على الفقراء في الدفع والفاقة ومساس الحاجة.
والعاملون عليها، وهم: البجاة لها، المتكلون لأخذها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، ولا خلاف في هذه الجملة، إلاَّ ما ذكرناه من أن المسكين أضعف حالاً من الفقير.(32/3)


أما ما يأخذه العامل، فإنه جار مجرى الأجرة على عمله، وإن لم يكن ذلك إجارة محضة، فيجب أن يعطى على قدر عمله.
وقد ذكر أبو العباس الحسني أنَّه لا حق لبني هاشم في ذلك، واستدل أن فئة من بني هاشم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يوليهم شيئاً من الصدقات ليصيبوا منها ما يصيب الناس، ويؤدوا ما يؤدون فامتنع، وقال: ((إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)).
وفيه من جهة النظر أنهم لما لم يجز أن يأخذوها بسائر الأسباب، لم يجز أن يأخذوها بالعمالة، والمعنى أنَّها سبب أحد الأصناف الثمانية في أخذ الصدقة.
وقلنا: إنهم لا يأخذونها بالعمالة، كما لا يأخذونها بسائر الأسباب.
وأما كون المساكين أضعف حالاً من الفقراء، فليس فيه كثير تعلق بالفقه على أصولنا؛ لأن شيئاً منحكم الصدقات فيه ما لا يتعين أيهما كان أضعف حالاً.
ووجه ما ذهبنا إليه أنَّه محكي عن أهل اللغة رواه أبو بكر الجصاص، عن أبي الحسن الكرخي، عن ثعلب، عن أبي العباس، قال: وقال أبو العباس، قيل: لأعرابي أفقير أنت؟ قال: لا، بل مسكين، وأنشد ابن الأعرابي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد
فسماه فقيراً مع أن له حلوبة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان، لكن المسكين الذي لا يجد ما يغنيه))، فنفى المسكنة عمن يرده ما يعطى، وجعل المسكين من لا يجد ما يكفيه.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيْناً ذَا مَتْرَبَةٍ}، وقيل في التفسير: إنَّه الذي ألزق جلده في التراب لعرية هو ذلك.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {أَمَّا السَّفِيْنَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِيْنَ يَعْمَلُونَ فِيْ الْبَحْرِ} فوصفهم بالمسكنة مع كون السفينة لهم.(32/4)


قيل له: قد روي أنها كانت لغيرهم ملكاً، وإنهم كانوا أجراء يعملون فيها، فنسبت إليهم، كما تنسب الدار إلى من يسكنها وإن لم يملكها، وعلى هذا قال اللّه تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيَّ}، وقال في موضع لنساء النبي: {وَقَرْنَ فِيْ بُيُوتِكُنَّ}، فأضافها سبحانه تارة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتارة إلى أزواجه، ولا يمتنع ـ أيضاً ـ كون السفينة قليلة الثمن بين شركاء كثيرين، فيكون ما يخص كل واحد منهم طفيفاً نزراً.
مسألة
قال: والمؤلفة قلوبهم، وهم أهل الدنيا المأمون إليها إذا لم يكن بالمسلمين غنى عنهم، فحينئذ يلزم الإمام من تألفهم ما كان يلزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) على أن المؤلفة قلوبهم من ذكرناهم، وظاهر قوله يدل على أن أهل الكفر وأهل الملة فيه سواء، وذهب أبو حنيفة أنَّه لا سهم لهم بالمال [إلى سقوط التأليف بالمال](1).
وحجتنا أن الآية قد أوجبت السهم له، ولا دليل على نسخها والقرآن لا ينسخ بالاعتبار، على أن اعتبارهم الذي ذكروه فاسد؛ لأنه لا يمتنع أن يحتاج إلى المؤلفة قلوبهم في كثير من الأوقات والأحوال لشيء يعرض، فلا يكون من تألفهم واستمالة قلوبهم بدّ.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في نسخة.(32/5)


على أن غالب ظني أن أبا حنيفة قال هذا القول، على ما يشاهد في ذلك الزمان من صدق نيات المسلمين، فأما لو شاهد هذا الزمان، وتخاذل المحقين فيه، لعلم أنَّه لا بد من تدبير أمور المسلمين فيه من تألف كثير من المنحرفين عن الحق والاستعانة بهم، ولم يجب أن يعتبر فيه حال المؤلفة قلوبهم في الكفر والملة؛ لأن هذا السهم لم يجعل حقاً لهم، فيراعى في أحوالهم، وإنما جعل لمصالح المسلمين، ألا ترى أنهم ـ أعني المؤلفة قلوبهم ـ إذا رأى الإمام أنَّه مستغني عنهم لم يعطهم شيئاً منه، وإنما يعطيهم إذا رأى الحاجة تمس إليهم في الاستعانة بهم والتخذيل لهم من الأعداء المخالفين، فلذلك لم يعتبر حالهم في الفقر الغناء، فكذلك لا يعتبر حالهم في الكفر والملة؛ لأن المقصود بهذا السهم ابتغاء صلاح المسلمين والدين وحفظ البيضة وسد الثلمة.
مسألة
قال: والرقاب هم المكاتبون.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
وذكر أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (النصوص) أن يحيى عليه السلام تأول الإيتاء في أية الكتابة على سهم الرقاب، وقال: يجب معاونتهم على مقدار ما يرى الإمام، وهذا قول عامة الفقهاء، وقال مالك: المراد به رقاب يبتاعون من الزكاة، ويعتقون ، ويكون ولاؤهم لجميع المسلمين، وما ذهبنا إليه أولى؛ لأن الآية تناولت كل صدقة في نفسها، وقد علمنا أن صدقة كل إنسان لا تسع لأن يشتري بها رقبة لو صرفت بمجموعها إليه، فكيف إذا صرف بعض سهامها إلى غير الرقبة، والمعونة التي ذهبنا إليها ممكنة في كل صدقة، ولكل متصدق، على أن في تحرير الرقاب ثبوت الولاء لمن حررها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الولاء لمن أعتق))، وموضوع الصدقات أن نفعها لا يجوز أن يعود إلى صاحبها، فبان بذلك أن ذلك لا يجزي في الصدقات.(32/6)


وإن شئت جعلت ذلك قياساً، فقلت: لأنَّه لا خلاف أنَّه لا يجوز لصاحب الصدقة أن يصرفها في حوائج نفسه، فكذلك لا يجوز أن يعتق بها نسمة، والمعنى أنَّه صرف فيما يرجع نفعه على خاصته، فوجب أن لا يجزي، وعتق النسمة يوجب حصول النفع بالولاء، ولا يلزم عليه ما نذهب إليه من أن سهم السبيل يجوز صرفه إلى إصلاح الطرق، وما جرى مجراها؛ لأن نفعه لا يرجع إلى خاصته، ولا يلزم عليه ـ أيضاً ـ جواز إعطائه الغريم، ثم مطالبته بحقه؛ لأن المطالبة إنما هي فيما كان في ذمته لا بمعنى حادث، يبين ذلك أن للغريم أن لا يعطيه ما أعطاه المتصدق، ويعطيه من غيره، والولاء يثبت بنفس العتق، لا بمعنى متقدم، ولا يلزم عليه الكفارات؛ لأنها لا يصح فيها غير ذلك.
على أن قوله في هذا ينافي النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((الولاء لمن أعتق))، وهذا يوجب أن يكون الولاء لجميع المسلمين، إذا أعتق من جملة الصدقات، فيكون الولاء على هذا قد صار لمن لم يعتق، وهذا خلاف النص، فبان أن قولنا أولى وأشبه بالأصول.
مسألة
قال: والغارمون، هم: الذي لزمتهم الديون في غير سرف، ولا إنفاق في معصية.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
ولا خلاف أن هؤلاء يعطون على الفقر؛ لأنَّه لو كان غنياً لم يعط لكونه غارماً بالاتفاق.
ووجه قولنا: إنهم الذي لزمتهم الديون في غير معصية ـ قول اللّه تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، ومعاونة من لزمته الديون في المعاصي معاونة على الإثم والعدوان، فوجب أن يكون ذلك غير مراد بالآية.
فإن قيل: قضاء الدين على أي وجه لزم واجب، فالمعاونة عليه معاونة على البر والتقوى.(32/7)

127 / 138
ع
En
A+
A-