وتعجيل الزكاة جائز. نبه عليه في (الأحكام) بقوله: إن ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العباس رحمه الله.
وذكر أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه في (النصوص) أن القاسم عليه السلام، قال في مسائل علي بن العباس: لا بأس بتعجيل الزكاة.
قال أبو العباس: تجويزه تقديمها قبل الحول إيجاباً منه إياها موسعاً، وتجويز تعجيلها مذهب أكثر الفقهاء، وخالف فيه مالك.
والأصل فيه ما:
أخبرنا أبو العباس الحسني، قال: حدثنا حامد بن معاذ الشامي، قال: حدثنا محمد بن يونس، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، قال: سمعت الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعجل من العباس صدقة عامين.
وروى ابن أبي شيبة أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعث ساعياً على الصدقة، فأتى العباس، فقال له العباس: إني أسلفت صدقة مالي لسنتين، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال: ((صدق عمي)).
وروى أبو داود بإسناده في السنن يرفعه إلى حجية، عن علي عليه السلام أن العباس رحمه اللّه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك، فكل ذلك يدل على ما ذهبنا إليه من جواز تعجيل الزكاة.
ويدل على ذلك قول اللّه سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، من غير تقييد لوقت، وهو قبل الحول مقيس عليه بعد الحول في جواز إخراج الزكاة، والمعنى حصول النصاب، من حصل النصاب جاز له إخراج زكاته، وإن شئت قلت حصول سبب الزكاة، ولا ينتقض ذلك بحصول الحول من غير كمال النصاب؛ لأن الحول شرط في نفس وجوب الزكاة، وليس هو السبب الموجب لها، بل السبب الموجب لها هو النصاب.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: ((لا زكاة في ملك حتى يحول عليه الحول)).(31/10)


قيل له: المراد لا زكاة تجب وجوباً مضيقاً حتى يحول عليه الحول، بدلالة ما روي من استلافه صلى الله عليه وآله وسلم صدقة عمه العباس.
فإن قيل: لا خلاف أنها لا تجزي قبل النصاب، فكذلك قبل الحول، والمعنى أنهم يعنون الحول والنصاب شرطاً الزكاة، أو قاسوها على الصلاة والصوم في أن تعجيلهما لا يجوز؛ بعلة أنهما عبادة وجبت ابتداء، فكذلك الزكاة.
قلنا في ذلك أجوبة:
أحدها: أنا نقول: إن هذه القياسات باطلة؛ لأنها تدفع النص الذي روي في صدقة العباس.
والثاني: أنا لا نسلم أن النصاب شرط في وجوب الزكاة، بل نجعل النصاب سبباً موجباً لها، ونجعل الحول شرطاً لتضيق وجوبها، فلا نسلم علتهم.
وأما الصلاة فيجوز تعجيلها في أول وقتها، وعندنا أن النصاب إذا حصل كان ذلك أو وقت وجوب الزكاة على ما حكيناه في صدر المسألة عن أبي العباس الحسني رضي اللّه عنه.
فإن قيل: لا يصح قولكم: إنها تجب عند حصول النصاب؛ لأن ما جاز أن يفعل، وجاز أن لا يفعل لا يكون واجباً.(31/11)


قيل له: نقول في ذلك ما نقول في أول وقت الصلاة، ألا ترى أنها وإن جاز تأخيرها إلى آخر الوقت، لا تخلو من أن تكون واجبة في أول الوقت، إلاَّ أن ذلك الوجوب يكون وجوباً موسعاً، ويكون الإنسان مخيراً فيه بين أن يفعلها أو يفعل ما يقوم مقامها من العزم على فعلها، فقد بان لك أن جوابنا في الصلاة وفي الزكاة في أول وقتيهما على حد واحد، على أن عللهم لو سلمت كانت معارضة بعلتنا، ويسلم لنا ما رويناه في صدقة العباس، أو ترجح علتنا بأنها تقتضي الإيجاب للفقراء، وبأنها تفيد حكماً شرعياً عند حصول النصاب، وتقتضي وجوباً، وإن كان موسعاً، وقد قالوا هم: إنها إذا لم تجب في أول الحول، كان نفلاً، والنفل لا يسقط الفرض، وهذا غير لا زم، على ما بيناه من أنها تجب في أول الحول وجوباً موسعاً، على أنا لو سلمنا ما ادعوه من أنها في أول الحول نفل، لم يجب ما ذكروه من أن النفل لا يسقط الفرض، بل ذلك غير ممتنع إذا دل الدليل عليه.(31/12)


باب القول في صفة من توضع فيهم الزكاة
توضع الزكاة في الثمانية الأصناف الذين وصفهم اللّه في كتابه، وكلما استغنى صنف منهم رجعت حصته على المحتاج منهم.
وللإمام أن يضع ذلك في صنف منهم إذا لم يكن فيه إجحاف بالباقي.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ولا خلاف في وضع الصدقة في الثمانية الأصناف غير المؤلفة قلوبهم، فقد اختلف فيهم، وسنذكر فيه ما يجب إذا انتهيا إلى ذكرهم.
واختلف في جواز وضعها في صنف منهم، فمذهب أبي حنيفة وأصحابه أن ذلك جائز، وذكر أبو بكر الجصاص في شرحه أنَّه مروي عن عمر وحذيفة، وابن عباس، قال: وروي نحوه عن سعيد بن جبير، وإبراهيم، وأبي العالية، ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه، فصار ذلك إجماعاً.
ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هَيِ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُو خَيْرٌ لَكُمْ}، فأجاز إعطاءها الفقراء، وهو مصنف واحد، وأخبر أنَّه خير لنا، فصح به ما ذهبنا إليه.
ويدل عليه حديث معاذ حيث قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أعلمهم أن اللّه افترض عليهم صدقة أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم))، فاقتضى ذلك وجوب ردها في الفقراء وهم صنف واحد، وهذا الذي اعتمدناه يكشف أن الصدقات كلها تستحق بالفقر دون ما سواه، وأن المذكور في الآية إنما هي أسباب الفقر، يبين ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنَ} وقد علمنا أنهما في حكم الصنف الواحد، وإن كان أحدهما أشد خصاصة من الآخر.
ويدل على ذلك أن سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته، أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينطلق إلى صاحب صدقة بني زريق ليدفع إليه صدقاتهم، وسلمة لا بد من أن يكون من أحد الأصناف.(32/1)


ويدل على ذلك أن الصدقة لا تخلو من أن تكون مستحقة لمجرد الاسم من هذه الأسماء، أو لمعنى هو الحاجة والفقر، أو بالاسم والمعنى، ولا يجوز أن تكون مستحقة بالاسم إذ لو كانت مستحقة بالاسم كان يجب أن يستحقها الغارم وابن السبيل والمكاتب، وإن كانوا أغنياء، وهؤلاء لا يستحقون منها شيئاً مع الغنى بالاتفاق، مع أن الأسماء لازمة لهم، ولا يجوز أن تكون مستحقة بالاسم والمعنى جميعاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الاستحقاق في التحقيق راجعاً إلى المعنى الذي هو الفقر، بدلالة أن الفقر إذا حصل من غير اسم ابن السبيل والغارم والمكاتب حصل الاستحقاق من غير حصول الأسماء، وإن حصلت الأسماء ولم يحصل المعنى، لم يحصل الاستحقاق، إلاَّ أن يجعل للاستحقاق في كل وقت قسط، فيقال: إن الغارم إذا كان ابن السبيل، وكان فقيراً استحق بالاسم ثلاثة أسهم، فإن أنضارف إلى ذلك أن يكون غازياً استحق أربعة، وذلك خلاف الإجماع، فبان أن الاستحقاق راجع إلى المعنى الذي هو الفقر والحاجة.
ومما يبين ذلك أن قول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ..} إلى آخر الآية، ينتظم الصدقات أجمع لا صدقة واحدة، ومعلوم أنَّه لم يرد أن يكون كل جزء منها بين الأصناف؛ إذ لا خلاف أن فقيراً ما يجوز أن يعني شيئاً من الصدقة، وأن حق سائر الفقراء ينقطع عنه، فكذلك سائر الأصناف؛ إذ قد وصل ذلك إلى من له فيه حق، فإذا صح ذلك استدلالاً وقياساً، جاز أن تدفع صدقة رجل واحد أو عام واحد إلى صنف واحد، ثم يعطى الباقون سائر الصدقات في مستقبل الأوقات.(32/2)

126 / 138
ع
En
A+
A-