ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث سعاته ومصدقيه لأخذ الصدقات، وكذلك فعل أبو بكر وعمر من غير أن يكون أحد من الصحابة أنكر ذلك، وكذلك فعل أمير المؤمنين عليه السلام، وكل ذلك يحقق ما ذهبنا إليه.
وروى ابن أبي شيبة، بإسناده، عن عمر: ادفعوا صدقة أموالكم إلى من ولاه اللّه أمركم.
وعن أبي بكر: لو منعوني عقالاً مما أعطوه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلمين عشر، وإنما العشور على اليهود والنصارى)).
قيل له: المراد به العشور الذي يؤخذ من أهل الذمة، إذا اتجروا في بلد المسلمين، ألا ترى أنه لا خلاف في وجوب الصدقات عليهم، وإنما الخلاف في بعض الصدقات، هل للإمام أخذها منهم كرهاً؟ والخبر لم يتناول موضوع الخلاف، ولا خلاف أن صدقات المواشي والزرع يأخذها الإمام منهم، فكذلك صدقات الذهب والفضة؛ والعلة أنها صدقات وجبت في الأموال ابتداء.
وقلنا: إن صاحب المال إذا اتهم استحلف احتياطاً؛ لأنَّه إذا ثبت أن للإمام حق الاستيفاء والمطالبة، جاز له استحلافه؛ قياساً على من أله المطالبة والاستيفاء في سائر الحقوق.
مسألة
قال: ولا ينبغي أن يخرج زكاة قوم من بلدهم وفيهم فقراء، إلاَّ أن يرى الإمام ذلك صلاحاً.
وهذا منصوص علي في (الأحكام).
والأصل فيه ما:
روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ: ((أعلمهم أن عليهم في أموالهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم)).(31/5)


وروى أبو داود في السنن أن عمران بن حصين بعثه بعض الأمراء على الصدقة، فلما رجع قال لعمران بن حصين: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها من حيث كنا نأخذ من عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فنبه بذلك على أن التفرقة كانت حي ثكان الأخذ، وأن ذلك هو المعمول به على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم.
وروي من انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته، فعشره وصدقته في مخلاف عشيرته.
وقلنا: إلاَّ أن يرى الإمام ذلك صلاحاً؛ أنَّه الناظر في أمور المسلمين، والقاسم للصدقة والفيء على ما فيه صلاحهم.
مسألة
قال: ولو أن قوماً أبطأ عنهم المصدق، فأخرجوا صدقاتهم إلى مستحقيها من الفقراء، أجازه المصدق بعد أن يعلمهم إن عادوا لمثله لم يجزه لهم، فإن عادوا إلى مثل ذلك لم يجز لهم، وأخذهم بإعادة الصدقة.
وإذا ادعوا في أول الأمر أنهم قد أخروها، بحث المصدق عن ذلك، وطلب البينة، فإن صح ذلك، وإلا طالبهم بها، وأخذها منهم.
جميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام).
ووجه ما ذكرنا من أن المصدق يجيز ذلك هو أن المصدق إذا تأخر عنهم، ولم يكن قد قدم عليهم بانتظار المصدق، يكون حالهم حال الذين لا إمام لهم أو حال من أذن لهم الإمام في تفريقها، فكما أن هؤلاء لا يؤخذون بالإعادة، فكذلك من ذكرنا، والمعنى أنهم لم يكن عليهم مطالبة، ولا ما يجري مجرى المطالبة من جهة الإمام في وقت وجوب الصدقة، فكل من كان كذلك، وأخرج صدقته إلى مستحقيها من الفقراء، لم تلزمه الإعادة، يكشف ذلك أن حق الإمام يثبت فيها بالمطالبة، وما يجري مجراها، فأما إذا تقدم الإيذان فالمطالبة بها قائمة، فإذا فرقوها على هذه الحلاة يكون سبيلهم سبيل من امتنع من دفعها إلى الإمام، وأعطاها الفقراء في أنهم يأخذون بإعادتها؛ إذ التفرقة وقعت مع مطالبة الإمامة بها، فهم في حكم من لم يخرجها أصلاً.(31/6)


ووجه ما ذكرناه من المطالبة بالبينة ما تقدم القول فيه في الاستخلاف.
مسألة
قال: وإذا لم يكن في الزمان إمام عادل، فرق الزكوات أهلها على ما ذكره اللّه تعالى.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والوجه فيه قول اللّه تعالى: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، ولأن تلك الحقوق عندهم للفقراء لقول اللّه تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، فإذا لم يكن من يستوفيها عليهم، استوفوها على أنفسهم، ولا بد من الخروج من الحق، على أن المسألة وفاق، فلا وجه للإطالة فيها.
مسألة
قال: ولو أن من وجبت عليه الزكاة أخرجها من ماله وعزلها، فهلكت قبل تفريقها في أهلها فعليه ضمانها.
وكذلك إن أخرجها من بلد هو فيه، فضاعت في الطريق فعليه الضمان، فإن تلفت بعد ما صارت في يد الإمام أو في يد وكيل الإمام، فلا ضمان على صاحب المال.
ولو أن الإمام تسلمها من صاحب المال، أو تسلمها وكيل الإمام، ثم أودعها صاحب المال، فتلفت لم يكن على صاحب المال ضمانها، فإن أمره المصدق أن يعزلها فعزلها، فتلفت قبل أن تصل إلى المصدق، ضمنها صاحب المال.
نص في (الأحكام) على أن صاحب الصدقة ضامن لها حتى يخرجها إلى أهلها، ويؤديها إلى أربابها.
ونص في (المنتخب) على سائر ما اشتمل هذا الفصل عليه.
ووجه قولنا: إنَّه إذا عزلها فتلفت قبل أن يضعها موضعها أو يسلمها إلى المتوالي لقبضها أنها بعد في يده، ويده ليست يد المساكين ولا يد المتولي لقبضها، فإذا ضاعت كان الضائع بعض ماله، ولزمه أداء ما عليه كما يلزمه لو لم تكن عزلها؛ إذ عزلها ليس هو أكثر من تحويلها من موضع إلى موضع، وحكمها كما كان لو لم يعزلهما، وهذا هو وجه ما ذكرنا من أنه إذا أخرجها من بلد إلى بلد فيه الإمام، وضاعت في الطريق، فعليه ضمانها، فلا وجه لإعادته.(31/7)


ووجه قولنا: إنها إن تلفت بعد ما صارت في يد الإمام، أو يد وكيل الإمام، فلا ضمان على صاحب المال، هو أن يد الإمام ويد وكيله يد الفقراء، فكما أنها لو تلفت بعد ما صارت في أيدي الفقراء لم يضمنها صاحبها، وكذلك إذا صارت في يد الإمام أو يد وكيله؛ لأن يدهما يد الفقراء.
وـ أيضاً ـ إذا كان الإمام وكيل الفقراء في قبض الصدقات ووجدنا الحقوق إذا صارت في أيدي وكلاء مستحقيها، ثم تلفت لم يضمنها الموفي لها الوكلاء، فكذلك ما ذكرنا، والمعنى أنَّه تلف في يد الوكيل بعد ما استوفاه.
وقلنا: إن المتولي إذا استوفاها وقبضها من صاحب المال، فتلفت، لم يضمنها صاحب المال؛ لأن المتولي إذا استوفاها وقبضها من صاحب المال، خرجت عن ملك المزكي، فإذا أعادها في يده على سبيل الوديعة يكون سبيلها سبيل سائر الودائع، في أن المودع لا يضمنها إذا تلفت.
وقلنا: إن المصدق إذا أمره بعزلها من ماله فعزلها فتلفت، ضمن صاحب المال؛ لأن القبض لم يحصل بعد فهي في حكم سائر أمواله، على ما بيناه ي صدر المسالة، فعليه إذا تلفت ضمانها.
فإن قيل: أليس يحيى بن الحسين عليه السلام قال في بعض مسائل البيوع: إن الإنسان يصح أن يقبض الشيء من نفسه لغيره، فكيف تقولون: إن القبض هاهنا لم يصح؟(31/8)


قيل له: قد أشار هو إلى ما ذكرت في بعض المسائل، إلاَّ أن حكم هذا الموضع مخالف لذلك، وذلك أن الوكيل ليس له أن يوكل إلاَّ بإذن الموكل، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا لم يصح توكيل المصدق رب المال بالقبض، فيجب أن لا يصح قبضه، وإذا لم يصح قبضه كان الأمر على ما قلناه، وعلى هذا القول ليس يبعد أن نقول: إن الإمام لو أمر صاحب المال بعزل صدقته عن ماله فعزلها فتلفت، لم يضمنها؛ لأن التوكيل بالقبض إذ ذاك يكون صحيحاً، وكذلك لو كان الإمام أذن للوكيل للتوكيل، وذلك كله إذا قلنا: إن الإنسان يصح قبضه من نفسه لغيره، فأما إذا لم نقل بذلك، فيجب أن يكون صاحب المال ضامناً لها، وإن عزلها بإذن المتولي، ما لم يخرجها عن يده إلى الفقراء أو المتولي.
مسألة
قال: ولو أن مصدقاً جاء إلى من وجب عليه العشر، فوجده قد باع غلته كلها، أخذ العشر من المشتري، ورجع المشتري على البائع بثمن العشر الذي أخذ منه، وإن كان المشتري قد استهلكه، أخذ المصدق من البائع قيمته.
وهذا منصوص علي في (الأحكام).
ووجهه ما بيناه في ماضي من هذا الكتاب: أن قد الصدقة يستحق من المال، فإذا ثبت ذلك وباع صاحب الغلة الغلة أجمع، كان قد باع ماله، وما ليس له مما هو يستحق من جملته للفقراء، فللمصدق أن يأخذه من المشتري، ويرجع المشتري على البائع بالثمن، هذا إذا كان قائماً بعينه، فأما إذا استهلكه، فليس إلاَّ أخذ بدله من مثل أو قيمه.
وقوله عليه السلام: يأخذه من البائع يعني المثل أو القيمة، بعد استهلاك المشتري له، ليس على القطع، بل له الخيار بين أن يأخذه من البائع أو من المشتري، ما كان يقول في سائر المستحقات إذا تلفت في يد المشتري، فتقدير الكلام أن المصدق إن شاء أخذه من البائع، إلاَّ أنَّه إن أخذه من المشتري رجع به على الباع، وإن أخذه من البائع لم يرجع على المشتري.
مسألة(31/9)

125 / 138
ع
En
A+
A-