ومما يزيد ذلك وضوحاً أنَّه لا خلاف فيمن تحجر محجراً على أرض، ثم عطلها ثلاث سنين، أن للإمام أن يدفعها إلى غيره ليعمرها إن أبى هو عمارتها لرجوع عائدتها إلى المسلمين، فلما كان تثمير ما يرجع نفعه إلى المسلمين مأخوذاً على الإمام، وصح ما ذهبنا إليه من كراهة ما يبطل النفع والعائد على فقرائهم.(30/7)
باب القول في كيفية أخذ الزكاة
يجب على المصدق أن لا ينزل على أحد ممن يأخذ منه الصدقة، ولا يأخذ منه الهدية، فإن قبل شيئاً من ذلك فهو لبيت مال المسلمين، إلا أن يطلقه له الإمام لضرب من الصلاح، وكذلك حكم جميع عمال الأئمة.
وهذا منصوص علي في (الأحكام).
وجه منعنا نزول المصدق على أهل الصدقات: أن نزوله لا يخلوا من أن يكون طوعاً من أرباب الموال أو كرهاً، ولا يجوز أن ينزل عليهم كرهاً؛ لأنَّه لا حق عليهم سوى ما يؤخذ.
وروى ابن أبي شيبة يرفعه إلى من سمع الحسن يقول: قال نبي الله: ((من أدى زكاة ماله أدى الحق الذي عليه)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل مال امرء مسلم إلاَّ بطيبة من نفسه)).
ولا يجوز أن ينزل عليهم طوعاً؛ لأنَّه يتهم، ولهذا يجب على القضاة الامتناع من حضور دعوات المتداعيين، وقبول الهدايا منهم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((ما بال أقوام نبعثهم، فيجيئون فيقولون: هذا لي، وهذا لك، أفلا جلس في بيت أبيه)).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام (هدايا الأمراء غلول)، وكل ذلك يصحح ما ذهبنا إليه.
وقلنا: إنه يرد العامل إن كان من قبل ذلك شيئاً إلى بيت مال المسلمين؛ لأنه أعطى ما أعطي لمعنى الولاية، فلا يصير ملكاً له، ولقول أمير المؤمنين: (هدايا الأمراء غلول)، والغلول اسم لما غل من بيت المال.
وقلنا: إلاَّ أن يطلقه الإمام؛ لأن للإمام أن يتصرف فيه بما يراه صلاحاً للمسلمين من إعطائه إعطاء غيره.
مسألة
قال: ويجب إذا ورد المناهل أن يقسم غنم كل رجل قسمين، ثم يخيره في القسمين، ويأخذ الصدقة من القسم الثاني، وكذلك يفعل بالإبل والبقر إلى آخر ما ذكر أنَّه يفعل إذا أراد أن يأخذ العشر من الكرم نحواً من ذلك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
وروى ابن أبي شيبة نحو قولنا عن الحكم والشعبي.(31/1)
ووجهه ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن ابن معبد، عن ابن عباس، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه لما بعثه إلى اليمن قال: ((إياك وكرائم أموالهم)).
واخترنا أن يفعل المصدق ذلك؛ احترازاً من أن يتفق أخذ كرائم الأموال؛ لأنَّه إذا فعل ذلك يعلم أنَّه لم يأخذ إلاَّ ما هو دون الخيار عند صاحب المال في أغلب الأحوال.
مسألة
قال: ولصاحب المال أن يشتري من المصدق ما يأخذه من الصدقة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) في (باب صدقة العنب)، ومالك يخالف فيه.
والأصل فيه قول اللّه تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَى} وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تَجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وعموم الآيتين يقتضي جواز ما ذكرناه.
ويدل على ذلك ما:
أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا سفيان بن هارون القاضي، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تحل الصدقة لغني، إلاَّ لخمسة: رجل اشتراها بماله، أو أهديت له، أو عامل عليها، أو غاز في سبيل الله، أو غارم))، وهذا عام في كل من اشتراها من صاحبها أو غيره، ولا خلاف أنَّه يجوز أن ترجع عليه بالإرث.
وروى أبو داود في السنن، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا عبد الله بن عطاء، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: كنت تصدقت على أمي بوليدة، وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة. فقال: ((قد وجب أجرك، ورجعت إليك في الميراث))، فلما جاز رجوعها إليها بالإرث جاز رجوعها بالشراء والهبة؛ قياساً على سائر الأموال، والعلة أنها رجعت إليها بوجه يوجب التمليك الصحيح.(31/2)
وـ أيضاً ـ لا خلاف أنَّه يجوز بيعها من غير المتصدق بها، فكذلك يجوز بيعها منه؛ والعلة أنَّه يجوز بيعها من المسلمين، ولم يختص بها مسلم دون مسلم.
ويجوز أن يقال فيها: إنَّه عقد بيع بين جائزي الأمر فيما يصح بيعه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعمر: ((لا تعد في صدقتك))، حين أراد ابتياع فرس كان حمل عليه في سبيل الله.
قيل له: يجوز أن يكون قال ذلك خشية من المحاباة التي ربما تقع لمشتريها؛ إذ كان هو المتصدق بها، أو لأمر خاص اختصت تلك الصدقة بعينها بسائر الأدلة التي ذكرناها.
فإن قيل: فإن من مذهبكم بناء العام على الخاص، فهلا خصصتم تلك العمومات بهذا الحديث؟
قيل له: نحن نوجب تخصيص العام بالخاص إذا لم يمكن استعمال الخاص إلاَّ مع تخصيص العام، فأما إذا أمكن لم نوجب ذلك، ولا يمتنع أن يتأول الخاص بضرب من التأويل ويبقى العام على عمومه، سيما إذا كان الخاص لا يصير مما يتناوله مجازاً، فإن ذلك إذا كان كذلك، فإنه يكون أولى من تخصيص العام به، على أن أصول البيعات تشهد لاستعمالنا وقياسنا؛ لأن ما جاز بيعه من مسلم أو بيعه من جميع المسلمين.
مسألة
قال: وللإمام أن يجبر الرعية على دفع زكاة أموالهم كلها إليه من الذهب والفضة وغيرهما، ومتى اتهم صاحب المال بإخفاء شيء تلزمه فيه الصدقة استحلف احتياطاً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل في ذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، وكلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفعله في أمته، فالإمام قائم مقامه، إلاَّ ما منع منه الدليل.(31/3)
وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن ابن عباس أن معاذاً، قال: بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: ((إنك تأتي قوماً أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلاَّ اللّه، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم))، فأخبر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن صدقة أموالهم مفترضة عليهم، وأن من حكمها أن تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم، وذلك عام في جميع الصدقات المفترضات.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، وابن مرزوق، قالا: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا ابن أبي ذؤيب عن عبد الرحمن بن مهران، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي أيوب ابن شرحبيل: أن خذ من المسلمين من كل أربعين ديناراً ديناراً.
ومن أهل الكتاب من كل عشرين ديناراً ديناراً، ثم لا تأخذ منهما شيئاً حتى رأس الحول، فإني سمعت ذلك ممن سمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ففيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذلك على ما نذهب إليه.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ من عشرين ديناراً نصف دينار، ومن كل أربعين ديناراً ديناراً.
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: حدثنا معاذ بن معاذ العنبري، عن ابن عون، عن أنس بن سيرين ـ في حديث له ـ:، قال: قلت لأنس بن مالك: اكتب لي سنة عمر، قال: فكتب: أن خذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهماً درهماً، وممن لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهماً، فإذا صح أن عمر جعله سنة بمحضر من الصحابة، ولم يرو أن أحداً أنكره، كان ذلك إجماعاً منهم.(31/4)