قيل له: لا يمتنع أن ينطلق اسم العشور، وإن كان الواجب في بعض المواضع نصف العشر كما يجب عشور الزرع، وإن كان يجب في بعضه نصف العشر، على أن أبا جعفر الطحاوي روى بإسناد ـ نذكره فيما بعد ـ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أيوب بن شرحبيل: أن خذ من أهل الكتاب من كل عشرين ديناراً ديناراً، فإني سمعت ممن سمع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك.
فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أمر بذلك.
مسألة
قال: وتؤخذ الجزية من مياسيرهم ورؤسائهم من كل واحد ثمانية وأربعون درهماً، ومن أوساطهم وتجاهم من كل واحد أربعة وعشرون درهماً، ومن ضعفائهم وفقرائهم من كل واحد منهمن اثنا عشر درهماً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ..} الآية، فأمر بقتالهم إذا أبوا الإسلام حتى يذعنوا بإعطاء الجزية، فكان ذلك أصلنا في وجوب الجزية.
فأما المقدار المأخوذ منهم، فالأصل فيه ما روى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنه كان يجعل على المياسير من أهل الذمة ثمانية وأربعين درهماً، وعلى الأوساط أربعة وعشرين درهماً، وعلى الفقراء اثني عشر درهماً.
وـ أيضاً ـ روي عن عمر أنَّه وضع الجزية على أهل السواد، وجعلهم ثلاث طبقات، على نحو ما ذكرنا، وذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير أحد منهم، فجرى ذلك مجرى الإجماع منهم.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:((أنه أخذ من أيلة وكانوا ثلاثماة ثلاثمائة دينار)).
وروي أنَّه قال لمعاذ: ((خذ من كل حالم دينار)).
قيل له: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أن هؤلاء المأخوذ منهم كانوا فقراء، فأمر أن يؤخذ من كل واحد منهم دينار.(30/2)


وهكذا نقول: إن الفقير منهم لا يؤخذ منه أكثر من دينار، ويحتمل أن يكون ذلك على وجه المصالحة، كما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يؤخذ من كل حالم وحالمة دينار.
وروي عن الحسين، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض على أهل اليمن في كل عام على كل حالم ذكر أو أنثى حراً أو عبد ديناراً أو قيمته من المعافرية، ومعلوم أن المرأة لا يؤخذ ذلك منها إلاَّ على سبيل الصلح، فإذا احتمل ما ذكرنا من الوجهين وصح عن علي عليهم السلام ما ذكرناه في هذا الباب، وعن عمر أن فعل ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير منهم، بان أن الواجب فيه ما ذكرناه.
فإن قيل: ما ذكرتم في الوجه الأول حين تأولتم أخذ الدينار من كل واحد منهم على الفقر لا يستمر على أصلكم؛ لأنكم توجبون على الفقير اثني عشر درهماً، وقلتم في باب الديات إن قيمة الدينار عشرة دراهم.
قيل له: يحتمل أن تختلف قيمة الدينار باختلاف المواضع، فتكون قيمة الدينار حيث فرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدية عشرة دراهم، وتكون قيمته في تلك المواضع اثني عشر درهماً، فلا يكون في ذلك ما يوجب التناقض.
مسألة
قال: ولا تؤخذ الجزية من نسائهم ولا من صبيانهم، ولا من مماليكهم.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب).
واستدل يحيى بن الحسين عليه السلام على أن لا جزية على النساء والوالدان، بأن قال: إن الجزية جعلت بدلاً من القتل بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَومِ الآخِرِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فلما لم تكن النساء من أهل القتال، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتلهن، وكذلك الولدان، علم أن لا جزية عليهم.
قال أبو العباس الحسني رحمه الله: اعتلاله يوجب أن لا جزية على الشيخ الهرم والزمن إذا لم يطيقوا القتال.(30/3)


وذكر أنَّه مروي عن محمد بن عبد اللّه صلوات اللّه عليه في سيره، وهذا قوي، إذ الإجماع حاصل على أن لا جزية على النساء؛ والعلة فيه أنهن لسن من أهل القتال، فكل من لم يكن من أهل القتال فلا جزية عليه.
وأما العبيد فإنهم لا أموال لهم، فلو أخذنا الجزية منهم، كانت ما أخذوه من أموال مواليهم، وفي ذلك تضعيف الجزية على أرباب المماليك، على أنَّه لا خلاف أن سائر أموالهم لا يجب فيها حق بحكم الجزية المطلقة، بل هي لمصالحة وقعت، فكذلك المماليك؛ لأنهم من جملة أموالهم، ولا يلزم على ذلك ما نأخذه من نصارى بني تغلب؛ لأن المأخوذ منهم ليس بحكم الجزية المطلقة، بل هي لمصالحة وقعت عليهم، فلا يكون ذلك نقضاً لعلتنا.
وـ أيضاً ـ لو وجب ذلك، لوجب على المسلم عن عبده الذمي، وهذا فاسد؛ لأنَّه مال الصغار، ولا صغار على مسلم.
مسألة
قال: وتؤخذ من بني تغلب نصارى الجزية ضعف ما يؤخذ من المسلمين من زكاتهم إلى آخر الفصل.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
وذكر يحيى بن الحين عليه السلام فيهما أن ذلك مما وقعت المصالحة عليه معهم يدلا من الجزية، ولا خلاف أن ما يجري بيننا وبينهم من المصالحة في هذا الباب جائز ماض.
والأصل فيه ما روي أنهم أنفوا من الجزية، وهموا بالانتقال إلى دار الحرب، فصالحهم عمر على ذلك فرضوا به.
قال أبو العباس الحسني رحمه الله: قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان صالحهم على ذلك، فإن صح ذلك، فيجب أن يكون ما جرى من عمر في هذا الباب كالتقرير لذلك الصلح المتقدم والتأكيد له، وأي ذلك كان فلا التباس في أن ذلك حكمهم اليوم؛ إذ قد تقرر ذلك في زمان عمر بمحضر من الصحابة واتفاق كلمة.(30/4)


فإن قيل: هذا يؤدي إلى إسقاط الجزية عن كثير منهم، وهم الفقراء الذين لا يملكون ما يجب على المسلمين في مثله الصدقة؛ لأنَّه لا يؤخذ منهم شيء، ولا يجوز أن تقع المصالحة على رفع ما ثبت عليهم بقول اللّه تعالى حيث يقول: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ..}، إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
قيل له: قد علمنا أن المأخوذ منهم على هذه الطريقة أكثر من الجزية، فيكون ذلك كأن الأغنياء منهم صالحوا على أنفسهم، وعن فقرائهم بما بذلوا من ذلك، فلا يجب على ما بيناه أن يكون شيء من الجزية قد أسقط، يبين ذلك أن هذا يدخل فيه أموال نسائهم وصبيانهم، وهؤلاء لا جزية عليهم.
مسألة
قال: وجميع ما يؤخذ من أهل الذمة فيء يحل لمن لا تحل له الصدقة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، ولا خلاف فيه؛ لأن الصدقات تطهير وتزكية لأهلها، قال اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا}، فصح أنها مأخوذة من الطهارة، سبيل ما يؤخذ من أهل الذمة سبيل الغنائم والفيء، فلم يجب أن تكون مصروفة مصرف الصدقات؛ ولأن المسألة وفاق، فلم نستقص الكلام فيها واقتصرنا على الإشارة إلى جملتها.
مسألة
قال: ولا يؤاجر أهل الذمة شيئاً من الأراضي المغلة التي هي للمسلمين، ولا تباع منهم مزارعهم؛ لئلا تطل أعشارها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، وهو محمول على الكراهة، لا على إبطال العقد، لو وقع لتصريحه المراد بقوله في (الأحكام): (لا أحب ذلك ولا أراه؛ لئلا تبطل الأعشار)، فبان من مذهبه أنهم كانوا إذا ملكوا علينا الأرضين لم يلزمهم فيها الأعشار، وفي هذه صحة تملكهم لها).
وقد اختلف في ذلك. فمن الناس من ذهب إلى أن الذمي إذا ملك أرض العشر لزمه فيها الخراج، وهو أبو حنيفة. قال أبو يوسف: يؤخذ منه فيها عشران، وقال محمد: يؤخذ منه فيها العشر.
والذي نذهب إليه أن لا شيء عليهم فيها.(30/5)


وروى محمد بن منصور، عن الحسن بن صالح، وشريك، وسفيان، في الذمي يستأجر من المسلم أرض العشر، أنَّه لا شيء عليه مثل قولنا.
والوجه في ذلك أن العشر صدقة تلزم بحكم الإسلام، فكما أن الذمي لو ملك الذهب والفضة والسائمة من الإبل والبقر والغنم، لم يلزمه فيها شيء مما كان يلزمنا، وجب أن تكون الأرضون ـ كذلك ـ بمعنى أنها مال مملوك علينا، فلا يجب أن يلزمهم به شيء.
وأما الخراج فإنه يجب أن يضرب على ما يفتح من بلادهم على ضرب من المصالحة، فأما ما ملكوه علينا بالعقد، ولم يجر بيننا وبينهم فيه مصالحة، فلا وجه لإلزامهم فيه الخراج؛ قياساً على سائر الأموال التي يملكونها علينا بالعقود.
فإن قيل: فما وجه الكراهة لبيع الأرض منهم مع أنكم لا تكرهون بيع سائر الأموال منهم، وكذلك تمليكهم الذهب والفضة، مع أن حقوق هذه الأموال ـ أيضاً ـ تبطل إذا صارت أملاكاً لهم.
قيل له: الوجه في ذلك أن سائر الأموال قد تستهلك ولا يتأبد بقاؤها في العادة، فكان تمليكنا إياها لهم جارياً مجرى الاستهلاك، فلم يكره ذلك، والأرضون لا تستهلك، بل يتأبد بقاؤها، فكره تمليكنا إياها لهم؛ لأنَّه يؤدي إلى أن تبطل الحقوق الواجبة في زرعها مع تأبد بقائها.
يؤكد ذلك أنَّه قد أخذ علينا التوصل إلى الاحتياط للفقراء، ألا ترى أنَّه قد أخذ علينا ضم الذهب إلى الفضة لوجوب الزكاة، وكذلك نقول في البقر إذا بلغت مبلغاً يصح أن يؤخذ منه المسان والتبايع أخذت المسان احتياطاً للفقراء، ونقول ـ أيضاً ـ في العلتين والخبرين والاستعمالين إذا تقابلا، وأحدهما موجب للزكاة، والآخر مسقط، أن الموجب أولى، فإذا ثبت أن الاحتياط للفقراء مأخوذ علينا في باب الصدقات، كان وجهاً لكراهة ما أدى إلى أبطال حقوقهم.(30/6)

123 / 138
ع
En
A+
A-