قيل له: الأدلة التي قدمناها تخصصه على ما رواه علي عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه عفا عن الإبل العوامل تكون في المصر، وكذا مالم يرد به تجارة، فدل على أن الزكاة سقطت بشرط أن لا تكون للتجارة.
فإن قيل: لو كانت الزكاة واجبة فيه، لوجبت في عينه دون قيمته.
قيل له: هذا الذي ذكرت غير واجب؛ إذ لا يمتنع وجوبها في القيمة في بعض المواضع، فلما كان ذلك كذلك، وكان قد ثبت وجوب الزكاة فيه، وأجمع الموجبون لها على أنها في قيمتها دون عينها، وجب ذلك، على أنا قد نوجب الزكاة في القيمة في الذهب والفضة؛ لأنا نأخذ الفضة عن الذهب بالتقويم، ونأخذ الذهب عن الفضة بالتقويم، فلا تصح دعوى من يرى أن أصول الزكاة، على أنها لا تؤخذ في القيم.
وروى محمد بن منصور، عن علي بن منذر، عن وكيع، عن الربيع بن صبيح، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: كان لزينب ـ امرأت بنت مسعود ـ طوق فيه عشرون مثقالاً ذهباً، فأمرها ابن مسعود أن تخرج زكاته، خمسة دراهم.
ومن جهة النظر أنَّه مرصد للنماء، فيجب أن يكون له مدخل في الزكاة قياساً على السوائم، ويمكن أن يقاس على الذهب والفضة؛ بعلة أنَّه يبتغي للنماء بتصريفه.
وقياسنا أرجح من قياسهم مال التجارة على نفسه قبل التجارة؛ بعلة أن الزكاة لا تجري فيه، ولاستنادها إلى الظواهر؛ ولأنه موجب، والقياس الموجب للزكاة عندنا أولى من المسقط، على أن صاحب الظاهر لا يقول بالقياس، فلا معنى لقياسه.
وأما مالك فعنده أنَّه إذا باعه بعين اعتد بما مضى من الحول، وهو عرض، فكذلك إذا باعه بعرض، والمعنى أنَّه مالٌ للتجارة.
مسألة
قال: وأيما رجل اتخذ دوراً أو حوانيت ليسكنها ويتجر فيها، فليس عليه في قيمة شيء منها زكاة، وكذلك إن اتخذ عبيداً؛ ليستخدمهم في التجارة أو غيرها، أو ماشية يركبها، أو يحمل عليها أموالاً، أو غيرها، فلا زكاة في قيمة شيء منها.(29/26)


قد نص الهادي عليه السلام في (الأحكام) على أن لا زكاة في الدور والخدم والكسوة والخيل مالم تكن للتجارة.
ونص في (المنتخب) على أن لا زكاة فيما يستعمل في التجارة من العبيد والحوانيت وغير ذلك إذا لم تكن أنفسها للتجارة.
واستدل بما رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: عفى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الإبل العوامل تكون في المصر، وعن الغنم تكون في المصر، وعن الدور والرقيق، والخيل والخدم والبراذين والكسوة واليواقيت والزمرد ما لم ترد به تجارة.
ويدل على ذلك ما:
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة))، على أن المسألة لا خلاف فيها، بل معلوم من دين المسلمين أنهم لا يقومون كسوتهم ودورهم للتزكية.
مسألة
قال: وإن اتخذ الدور والحوانيت، وكذلك العبيد والماشية ليستغلها، أو ليتجر فيها
نفسها، لزمت الزكاة في قيمتها.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب).
أما ما كان منها للتجارة، فقد مضى الكلام فيه.
وأما ما كان للاستغلال، فالأصل فيه قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا}، وهذا عام في جميع الأموال، فوجب أن تلزم الزكاة فيها بظاهر الآية.
ويدل على ذلك ما:
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((ابتغوا في أموال اليتامى، لا تأكلها الزكاة))، فدل هذا الخبر على وجوب الزكاة في جميع الأموال.
وـ أيضاً ـ روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((خذ من أغنيائهم ورد في فقرائهم))، وقد يكون الرجل غنياً بملكه للمستغل، كما يكون غنياً بالمستغل، كما تؤخذ ممن يكون غنياً بسائر الأموال.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه عفا عن الإبل العوامل، وذلك يحجكم.(29/27)


قيل له: نحمله على أنها عومل لصاحبها، لا على وجه الاستغلال منها؛ إذ أكثر العوامل كذا كانت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك نقول لمن احتج بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة))، ونحمله على أن المراد إذا كان للركوب والاستخدام.
فإن قيل: لستم في تخصيصكم خبرنا في ما اعتمدتموه من الظواهر بأولى منا إذا ما اعتمدتموه من الظواهر بخبرنا.
قيل له: نحن أولى بذلك؛ لأن الاستعمالين في باب الزكاة إذا كان أحدهما موجباً والآخر مسقطاً، فالموجب أولى عندنا.
ومن جهة النظر: أن مال التجارة إذا وجبت فيه الزكاة، وجبت في المستغل قياساً عليه، والمعنى أن كل واحد منهما مال يبتغي به النماء بالتصرف فيه، وليس يلزم على ذلك الخيل والحمير إذا كانت للنتاج؛ لأن النماء فيها لا يبتغي بالتصرف فيها، وإنما يبتغي بتوالدها، وهذه علة قوية؛ لأن حكم الأصل يوجد بوجودها، ويعدم بعدمها، ألا ترى أن عين مال التجارة إذا كانت للقنية ولم يبتغ النماء بالتصرف فيها، لم تجب الزكاة، وإن ابتغي النماء فيه، وجبت الزكاة.
وـ أيضاً ـ إذا اشترى الرجل مالاً للتجارة ونوى الاستغلال مع ذلك، ففيه الزكاة، وكذلك إذا اشتراه للاستغلال، والمعنى أنَّه مستغل، فكل مستغل يجب أن يكون حكمه في الزكاة حكم مال التجارة.
فإن ادعى في المسألة خلاف الإجماع.
قيل لهم: أكثر ما فيها أنَّه لا يحفظ عن الفقهاء مثل قولنا؛ إذ ليس بمحفوظ عنهم التنصيص على خلاف قولنا، ومثل هذا لا يمكن ممن يرى مخالفة الإجماع، فيجوز أن يكون وقع إليه من الرواية في ذلك ما لم يقع إلينا.
مسألة
قال: ولو أن رجلاً اجتمع عنده من صوف أغنامه ووبر أنعامه، وما أشبه ذلك من الألبان والأدهان ما تزيد قيمته على النصاب، لم يلزمه فيه الزكاة، إلاَّ أن يعاوض بها غيرها متجراً، فتجب الزكاة حينئذ في قيمة ما يأخذ عوضاً إذا حال عليه الحول.
وهذا كله منصوص عليه في (المنتخب).(29/28)


والأصل في ذلك أن هذه العروض إذا حصلت ملكاً لإنسان من أي وجه حصلت، لم يلزمه الزكاة فيها ما لم تكن للتجارة، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، فأما ما جعل منها للتجارة، فالزكاة واجبة فيه؛ للأدلة التي قدمناها، وعلى أن مال التجارة يصير للقنية بالنية، وما كان للقنية لا يصير للتجارة بمجرد النية حتى يبيعها بغيرها ناوياً للتجارة، وقد ذكره أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (النصوص).
والوجه فيه: أن التجارة ضرب من التصرف، فمجرد النية لا يجعلها للتجارة حتى يضامها التصرف، والقنية ترك التصرف وهو حاصل في كيفة النية، وهذا كما يقول: إن المسافر يصير مقيماً بالنية، فإن الإقامة ليست أكثر من الكف عن السير، فيكفي فيه النية، ولا يصير المقيم مسافراً إلاَّ بسير مخصوص تضامه النية؛ لأن السفر ضرب من السير.
قال أبو العباس الحسني في (النصوص): وكذلك القول فيمن اشترى داراً للسكنى، ثم جعلها للكراء، أو اشتراها للكراء ثم جعلها للسكنى.(29/29)


باب القول فيما يؤخذ من أهل الذمة
يؤخذ من تجار أهل الذمة نصف عشر ما يأتون به من أموالهم، ويتجرون فيه على المسلمين في أرض الإسلام إذا أتوا من بلد شاسع إلى بلد شاسع، فأما من اتجر منهم في مصره، فلا يؤخذ منه شيء سوى الجزية.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
قال الهادي إلى الحق عليه السلام: وعلى ذلك وقعت المصالحة.
والأصل في ذلك ما:
روي عن أنس أن عمر جعل بمشورة أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على أهل الذمة نصف العشر، وعلى أهل الشرك ممن لا ذمة له ـ يعني المستأمنين من أهل الحرب ـ العشر ، ومعلوم أن المراد به إذا اتّجروا وسافروا؛ إذ لا يقول أحد أنَّه يؤخذ منهم شيء سوى الجزية إذا كانوا في بيوتهم.
فإن قيل: كيف احتججتم بعمر واتباعه عندكم غير واجب، بل لا توجبون اتّباع أحد من الصحابة غير علي عليه السلام.
قيل له: لأن ما فعله عمر على الوجه الذي فعل لا يكون ذلك قوله وحده، بل يكون ذلك إجماع الصحابة، ألا ترى أن يحيى عليه السلام احتج في باب الرجم بأن قال: وقد رجم عمر وهو في وفارة أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم.
على أن واحداً من الصحابة إذا قال قولاً ولم يحفظ خلافه عن أحد منهم، كان ذلك كالمتفق عليه، على أنَّه قد روي في ذلك ما يدل على أن القوم لم يصدروا فيه إلاَّ عن السنة، وهو ما رواه محمد بن منصور، عن محمد بن جميل، عن أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن جده أبي أبيه، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلمين عشور، وإنما العشور على اليهود والنصارى))، وقد علمنا أنَّه لم يرد به عشور الزرع؛ إذ لا خلاف في وجوبها على المسلمين، وليس العشور الواجب على اليهود والنصارى إلاَّ ما ذكرناه بالاتفاق.
فإن قيل: فالخبر ورد بذكر العشور، وأنتم توجبون على أهل الذمة نصف العشر.(30/1)

122 / 138
ع
En
A+
A-