وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)، ولا خلاف بين المسلمين أن أرض الصلح يؤخذ منها ما وقعت المصالحة عليه بين المسلمين والمشركين، وأن المأخوذ من مال الصلح، ومال الخراج يجري مجرى الفيء، ولا يجري مجرى الصدقات، فأما الجمع بين العشر والخراج إذا صارت الأرض الخراجية في أيدي المسلمين، فقد مضى القول فيه، فلا وجه لإعادته.
مسألة [الإحياء والتحجر]
قال: وأيما أرض أحياها رجل مسلم، فهي له ولورثته من بعده مالم يكن ملكها أحد قبله.
وقال في (المنتخب): أمر الأرض التي لا مالك لها إلى الإمام، قال: ومن تحجر محجراً على أرض، فهو أولى بها ما لم يضيعها ثلاث سنين، فإن ضيعها ثلاث سنين، فأمرها إلى الإمام يأخذه بعمارتها، فإن فعل وإلا دفعها إلى غيره.
ما ذكرناه من إحياء الأرض منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)، وما ذكرناه أخيراً فيمن تحجر محجراً على أرض إلى آخر الفصل، منصوص عليه في (المنتخب).
وتحصيل المذهب أن إحياء الأرض والتملك به جائز لكل مسلم بإذن الإمام وبغير إذنه.
وما ذكره في (المنتخب) من أن أمر الأرض التي لا مالك لها إلى الإمام. قال عاطفاً على قوله: فيمن تحجر محجراً على أرض ثم ضيعه، وكذلك نقول: إنَّه إذا فعل ذلك كان أمرها إلى الإمام على ما ذكرناه.
وقد استدل يحيى عليه السلام في (الأحكام) و(المنتخب) على صحة قوله: إن من أحيى أرضاً، فهي له؛ بما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: حدثنا كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحيى أرضاً مواتاً، فهي له، وليس لعرق ظالم حق)).
وروي ((من أحيى أرضاً ميتة، فهي له)).
فاقتضى عموم الخبر أن من أحيى أرضاً مواتاً، صارت ملكاً له.(29/21)


وروي ـ أيضاً ـ عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من احتاط حائطاً على أرض، فهي له))، رواه الطحاوي بإسناده عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((ليس للمرء إلاَّ ما طاب به قلب إمامه))، وهذا عام في كل شيء إلا ما قام دليله.
قيل له: لا يصح لكم الاحتجاج بهذا الخبر؛ لأنه لا خلاف أن الأملاك المعينة غير مراد له؛ إذ لاخلاف أن من ملك شيئاً بعينه لا يحتاج إلى استطابة نفس الإمام للتصرف فيه، والأخبار التي رويناها قد أوجبت أن من أحيى أرضاً ميتة، صارت ملكاً له.
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((موتان الأرض لله ولرسوله(1)، ثم لكم ))، فأثبتت فيها حقاً للمسلمين، فيجب أن تجري مجرى الغنيمة في أن الملك لا يتعين فيها إلا بالإمام.
قيل له: هذا لم يثبت فيها حقاً لجماعة المسلمين، وإنما نبه على أنها مباحة لهم، وأن لهم إحياءها، كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار))، ولم يثبت فيها حقاً لجماعتهم يحتاج إلى الإمام لتمييزه، وإنما نبه بذلك على أنها مباحة لهم، وأنه لا يجوز منعهم منها، وهذا لو اعتمدناه ابتداء جاز؛ لأنَّه يقتضي أن ليس للإمام منع أحد من شيء منها، ومن وجه النظر لا خلاف في أن الماء والحشيش والصيد لا يحتجاج إلى إذن الإمام لتملك شيء منها، فكذلك الأرض الموات، والمعنى أن كل واحد منهما مباح في الأرض.
__________
(1) ـ موتان الأرض لله ولرسوله، يعني مواتها الذي ليس ملكاً لأحد، وفي لغتان سكون الواو وفتحها مع فتح الميم، تمت نهاية.(29/22)


فإن امتنعوا من وصف الأرض الموات أنها مباحة لم ينفعهم، وذلك أنا نريد بالمباح أنَّه منتفع به لم يملكه آدمي، على أن كل ما يمكن الإستدلال به على أن الأشياء على الإباحة يدل على أن الأرض الموات مباحة، فإن قاسوها على الغنائم؛ بعلة ثبوت الحقوق فيها لم يصح؛ لأنا لا نسلم أن في الأرض الموات حقاً لأحد، على أنه لو كان فيها حقوق على ما ادعوا، لوجب أن تكون الحقوق تنقطع بالإحياء؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحيى أرضاً ميتة، فهي له))؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد جعلها لمن أحياها، فيكون بذلك قد قطع حقوق الغير عنها لو كانت.
فإن قيل: فأنتم لا تجعلون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من قتل قتيلاً فله سلبه))، قطعاً لحقوق الغانمين، وتجعلونه خارجاً على سبب، وتذهبون إلى أن الإمام إن لم يكن قال ذلك في الحرب لم يكن السلب للقاتل، فيجب أن تقولوا فيما اختلفنا فيه بمثل ذلك.
قيل له: لو لا قيام الدلالة في القاتل أنَّه لا يستحق، لكان هذا العموم الذي ذكرتموه يوجبه ويقتضيه، لكن دلت الدلالة على أن خاص على ما نبينه في كتاب السير، وأن ذلك لا يجب إلاَّ بقول الإمام عند المحاربة لأقوام بأعيانهم.
واشتطرنا أن لا يكون ملكها أحد قبله؛ لأنَّه إذا ملكها مالك قبله يكون سبيلها سبيل سائر الأموال المتملكة؛ ولقول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل مال امرء مسلم، إلاَّ بطيبة من نفسه)).
وقلنا: إن من تحجر محجراً فهو أولى به، ما لم يضيع ثلاث سنين، فإن ضيعها كان الأمر فيه إلى الإمام؛ لأنَّه يحصل له بالتحجر مزية على غيره، فيكون أولى بما تحجر، كما أن من جلس في مقعد من السوق يكون أولى به، إلاَّ أن يقوم للمزية التي حصلت له، وكذلك من سبق إلى موضع من المسجد، يكون أولى به للعبادة.(29/23)


واشترطنا ثلاث سنين، ولما روي عن عمر أن قال: ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق. ولم يرو فيه عن أحد من الصحابة خلافه، فجرى مجرى الإجماع.
قال أبو العباس الحسني رحمه الله: وأظنه عن علي عليه السلام.
وقلنا: إن أمره إلى الإمام؛ لأن الحق الذي حصل له بالتحجر لا يقطعه إلى الإمام كسائر الحقوق التي يحتاج فيها إلى القطع، لا بد فيها من الإمام أو من يقوم مقامه.
فإن قيل: هلا استدللتم بقول عمر: ليس لمتحجر حق بعد ثلاث سنين، على أنها قد عادت إلى الإباحة، وهلا قلتم إنَّه لا يحتاج إلى إذن الإمام لعمارتها.
قيل له: لأن الحق المنفي هو التملك؛ لأنا نعلم أن المزية الحاصلة لم تنتف؛ ولأنه لا خلاف أنَّه يكون أولى بعمارتها، أو يدفعها إلى غيره ليعمرها.
وقد حكى يحيى عليه السلام في (الأحكام)، عن قوم أنهم قالوا: إن غيره لو عمرها كان له ذلك، إلاَّ أنَّه حقق في (المنتخب) أن الأمر فيها إلى الإمام إذا كانت الحال هذه.
باب القول في زكاة أموال التجارة وما كان في حكمها
كل مال للتجارة إذا بلغت قيمته النصاب وحال عليه الحول، وجب فيه ربع عشر قيمته، ثياباً كانت الأموال أو ما شية، أو مأكولاً، أو غير ذلك.
وهذه الجملة منصوص عليها في (الأحكام) و(المنتخب)، وهو قول عامة الفقهاء، وحكي الخلاف فيه عن مالك وصاحب الظاهر.
والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ}، فاقتضى ذلك إخراج الزكاة من جميع الأموال سواء كانت للتجارة أو غيرها، إلاَّ ما خصه الدليل.(29/24)


وروى زيد بن علي يرفعه إلى علي عليه السلام، قال: عفا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الإبل العوامل تكون في المصر، وعن الغنم تكون في المصر، وعن الدور والرقيق والخيل وكذا وكذا، مالم يرد به تجارة ـ حتى عد الياقوت والزمرد والكسوة وغير ذلك ـ، فدل ذلك على أن العفو وقع بشرط أن لا تكون هذه الأشياء للتجارة، فإذا كانت للتجارة، وجب أن ينتفي عنها العفو، وتجب الزكاة.
وروى سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان يأمر أن تخرج الصدقة من الرقيق الذي يعد للبيع، وهذا صريح في إيجاب الزكاة فيما يكون للتجارة؛ إذ الإعداد للبيع ليس أكثر من التجارة.
ويدل على ذلك ما:
روي أن سعاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضروا يشكون العباس وخالداً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أما العباس، فإني تسلفت صدقته لعامين، وأما خالد، فإنه حبس أدراعه وأعبده في سبيل الله))، فلا تخلوا الأعبد والأدرع التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونبه على سقوط زكاتها لكونها محبوسة في سبيل اللّه من أن تكون تجب فيها لأعيانها، أو لكونها للتجارة، فلما أجمعوا على أن لا زكاة في أعيانها صح أن الزكاة تعلقت بها لكونها للتجارة.
وروي عن عمر أنَّه قال لحماس بن عمر: أدِّ زكاة مالك. فقال: إنما مالي الجعاب والأدم. فقال: قومها وأدِّ زكاتها.
وروي عن عمر وابن عباس القول بزكاة العروض، ولم يرو عن غيرهما خلافهم، فجرى ذلك مجرى الإجماع.
فإن قيل: روي عن ابن عباس، أنه قال: لا زكاة فيه.
قيل له: إذا روي عنه الأمران كان بمنزلة أن لا يكون روي عنه شيء.
وروي عن عمر، وابن عمر، ولم يرو عن غيرهما خلافه، فصار ذلك إجماعاً.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة))، فعم، ولم يخص.(29/25)

121 / 138
ع
En
A+
A-