روى لنا بإسناده أبو بكر المقرئ، عن الطحاوي، أن أم هانئ بنت أبي طالب أجارت رجلين من أحمائها بني مخزوم، فدخل عليها أخوها علي عليه السلام فأراد قتلهما، فجاءت أم هانئ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفته ذلك، فقال: ((قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت))، فلو كان هناك صلح لم يطلب علي عليه السلام دمهما، ولأنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك حين سمعه، ولم يقل: ((قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت))، بل كان يقول: إن دمهما محظور لأنهما في الصلح.
وروى الطحاوي بإسناده عن أبي هريرة، قال: أقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قدم مكة فبعث الزير بن العوام من جانب، وخالد بن الوليد من آخر، وبعث أبا عيبدة على الجيش، فأخذوا بطن الوادي، ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة، فقال لي: يا أبا هريرة، اهتف بالأنصار، فهتفت بهم حتى إذا أطافوا به، وقد وبشت قريش أوباشها وأتباعها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار: ((انظروا إلى أوباش قريش وأتباعها ـ ثم قال بإحدى يديه على الأخرى ـ احصدوهم حصداً حتى توافوني بالصفاء، فانطلقوا فما شاء أحد منا أن يقتل ما يشاء، إلاَّ قتل فقال أبو سفيان: أبيدت خضراء قريش، ولا قريش بعد اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن))، فكيف يقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((احصدوهم))، إلاَّ والقوم له حرب.(29/16)


وروى أبو جعفر بإسناده أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن اللّه حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ووضعها بين هذين الأخشبين لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لي إلاَّ ساعة من النهار))، وذلك لا يكون مع الصلح، وفيما رواه ابن جرير بإسناده عن قتادة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ـ وهو واقف على باب الكعبة ـ: ((يا معشر قريش، أو يا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم ))؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، فأعتقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أمكنه اللّه تعالى من رقابهم عنوة وكانوا له فيئاً، ولذلك يسمى أهل مكة الطلقاء، فقوله: اعتقهم، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت الطلقاء))، يدل على أنهم كانوا حرباً؛ لأنهم لو كانوا في الصلح كانوا أحراراً، ولم يحتج إلى أن يطلقهم.
وروى أبو جعفر الطحاوي بإسناده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه مغفر، وروي عمامة، فلو كان دخوله على وجه الصلح، ولم يكن على وجه الحرب، لدخلها محرماً، كما دخل يوم صلح الحديبية، فدل تركه الإحرام على أنَّه كان لأجل القتال.
وذكر ابن جرير، عن الواقدي، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل ستة نفر من أهل مكة، وأربع نسوة، فقتل من قتل، وأسلم من أسلم، وهرب من هرب، فلو كان الصلح قائماً بينه وبينهم، لم يحل قتل هؤلاء.
فإن قيل: لو كان صلح الحديبية منتقضاً، لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل أبي سفيان حين ورد لتجديد الصلح.
قيل له: لم يقتله رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّه كان وافداً لأهل مكة، ورسولاً لهم، ولا يجوز قتل الرسل بدلالة ما:(29/17)


روى الطحاوي بإسناده أن رجلين وفدا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسيلمة، فقال لهما رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أتشهدان أني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم))،؟ فقال: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال: ((آمنت بالله وبرسوله لو كنت قاتلاً وفدا لقتلتكما)).
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن صلحاً انعقد بعد انتقاض صلح الحديبية.
قيل له: أنكرنا ذلك من حيث علمنا أنَّه لو كان لنقل، ولتواترت به الأخبار ما نقل صلح الحديبية، وسائر الأحوال التي جرت ولنقل كيف عقد الصلح، وعلى أي وجه عقد، على أن اللّه تعالى قد نهى عن الصلح بعد القدرة على الكفار بقوله:{وَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم في قوة عظيمة، فلم يكن يجوز له معها أن يوقع الصلح، كيف وقد بعث على القتال بقوله تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ..} إلى قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهِمُ اللَّهُ بَأَيْدِيْكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِيْنَ}.
وروي عن عدة من المفسرين أنهم قالوا: {يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِيْنِ} أراد خزاعة.
فإن قيل: ترك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قسمة أرض مكة، وأموال أهلها، وذراريهم بين الغانمين، وتركه تخميسها مع قول اللّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خَمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، دليل على أنها فتحت صلحاً.(29/18)


قيل له: يحتمل أن يكون اللّه تعالى جعل للنبي وللإمام الخيار إذا فتح بلداً بين أن يمن على أهله، وبين أن يتركهم على أملاكهم، وبين أن يقسمها بين الغانمين ويخمسها، فإذا احتمل ذلك ووردت الأخبار المتواترة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم فتحها عنوة بالسيف، جمعنا بينها ويبن الآية، وخصصن الآية بها، وهذا أولى من إبطال الأخبار المتواترة لعموم الكتاب.
فإن قيل: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد ))، يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرض مما كان من خالد من القتال يوم فتح مكة، وأنه لم يكن لخالد أن يقتل من قتل، وهذا يدل على أن الصلح كان قائماً.
قيل له: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل ذلك يوم الفتح، إنما كان بعث خالداً بعد ذلك إلى قوم يدعوهم إلى الإسلام فقتلهم خالد، فقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد)).
وفي الحديث المروي في هذا الباب أن خالداً أمرهم بوضع السلاح، فوضعوها، فظنوا أنَّهم لا يقتلون، فقتلهم، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعث علياً، فوداهم، فكيف يظن أن ذلك كان يوم فتح مكة.
فإن قيل: روي أن سعد بن عبادة، قال يومئذ حين تناول الراية: اليوم يوم الملحمة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اليوم يوم المرحمة))، وأخذت الراية من يده، فدل ذلك على أن الدخول كان على الصلح.
قيل له: يحتمل أن يكون قال ذلك لما كان يقومل عليه من بسط العفوا كما كان فعل صلى الله عليه وآله وسلم وأن يكون كره أن يكثر القتل، وليس في هذا دليل على أن القوم لم يكونوا حرباً.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين فتح مكة، قيل له: هلا تنزل دارك؟ فقال: ((وهل ترك عقيل لنا من رباع))، فدل ذلك على أنها فتحت صلحاً؛ لأنَّه لو كان فتحها عنوة لأخذ داره.(29/19)


قيل له: فمن أين لكم أن الصلح كان وقع عل أن لا ترد لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم داره، على أن ذلك لو كان على ما قلتم، لكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((اقتضى الصلح أن يكون داري لهم ))، ولم يقل: ((هل ترك عقيل لنا من رباع))، لأن خروجها عن أن يكون له صلى الله عليه وآله وسلم، إنما هو للصلح على قولكم، فلم يكن لقوله: ((وهل ترك عقيل لنا من رباع))، معنى.
وتأويل الخبر عندنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر إلى المدينة، باع عقيل دوره، فصارت ملكاً لهم باحتواء عقيل عليها وبيعها منهم، وهذا أحسن ما نعتمده في أن أهل الحرب يملكون علينا أمولانا في دورهم بالغلبة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((هل ترك عقيل لنا من رباع ))، أراد أنها باعها، فصارت ملكاً لهم.
فإن قيل: فعندكم أنها لما فتحت صارت تلك الدور مع سائرها غنيمة، فخرجت من أن تكون ملكاً لهم، وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذها على قولكم، إن المسلم إذا وجد ماله بعينه في الغنيمة قبل القسمة، فهو أولى به، فلم يكن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((هل ترك عقيل لنا من رباع )) معنى؛ لأن رباعه كانت عادت إليه على قولكم.
قيل له: يجوز أن يكون قال ذلك بعد ما منّ عليهم، وقرر أملاكهم في أيديهم، فيكون رباعه من جملة الأملاك المقررة في أيديهم، فلم يجز انتزاعها بعد ذلك.
مسألة
قال: وأرض صالح عليها أهلها، وهم في منعة فيؤخذ منهم ما صالحوا عليه، فما أخذ من الصنفين من الأرض فهو فيٌّ يرد إلى بيت مال المسلمين، ولا يجري مجرى الصدقات، بل يحل لمن لا تحل له الزكوات، فإن أسلم أهلها بعد ذلك، أوصارت الأرض في أيدي المسلمين، لزم فيها العشر مع الخراج.(29/20)

120 / 138
ع
En
A+
A-