ولا يمتنع أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم، قال ذلك، لأن المعلوم أن الشاة إذا قاربت الموت، يُعَاف أكل لحمها ويستضر به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( هلا ذُكِيَت وانتفع بإهابها ))، وإن لم يكن في لحمها غرض.
وما روي أنَّه قيل: يا رسول الله، إنها ميتة، فقال: (( دباغها طهورها )) إلى سائر ما روي فيه، فمعناه: أنهم أرادوا أنها كانت كالميتة، وحمله على هذا أولى من حمله على أنهم عرَّفوه صلى الله عليه وآله وسلم، أنها ميتة في الحال، لأنه لا معنى لأنْ يُعَرَّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما هو مشاهد معروف؛ لأنَّه ضرب من العبث، وإذا حمل على ما قلناه من أنه عرف أنها كانت كالميتة مرضاً وعجفاً، كان صحيحاً.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( دباغها طهورها ))، وقوله: (( يطهره الماء والقرض )). فإن المراد به أن دباغه كان يطهره من الفرث والدم والروائح الكريهة، وكذلك المراد بقوله: (( يطهره الماء والقرض ))، وقوله: (( إنما حرم أكلها )) محمول على أنَّه أراد المأكول منها دون الأصواف والأوبار. وفي هذا أن الجلد محرم لتأتي الأكل فيه.
وما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( أيما إهاب دُبِغ، فقد طَهُر )) فمحمول على جلد المذكى.
وليس لهم أن يقولوا: إن ذلك تعرية للحديث من الفائدة؛ لأن المراد بقوله فقد طهر، أي طهر من الفرث والدم والروائح الكريهة.
وهذا يفيد أن من اشترى جلداً على أنَّه مدبوغ، ثم وجد به روائح كريهة، أنَّه يرده بالعيب؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أيما أهابٍ دُبَغ فقد طَهُر ))، فقد ظهرت فائدته وصحت(1) ووضحت.
وما رواه الأسود، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( دباغ جلد الميتة طهورها )) فقد روي ما يوجب ضعفه، وهو:
__________
(1) سقطت من (ب) و(ج).(2/50)


ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا علي بن معبد، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: سألت عائشة عن جلود الميتة فقالت: (لعل دباغها يكون طهورها). ففي هذا أن عائشة كانت شاكة فيه، فلو كانت حفظت عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما روي عنها، لم تجب جواب الشاك، كيف وراوي هذا الحديث أيضا هو الأسود! وفيه أيضاً أنَّه لو حَفِظَ عنها رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك لما سألها.
وأما حديث ابن المحبق، وحديث سودة، فيجب أن يكونا منسوخين؛ بدلالة ما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كتب: (( أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء )) قبل موته بشهر أو شهرين، وروي: بعشرين ليلة في بعض الروايات.
وحديث سودة خصوصاً يجب أن يكون متقادماً، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد هجرها منذ حين؛ إذ كرهها لسنها، وكانت وهبت يومها لعائشة، والحديث في أمرها مشهور، فإذا ثبت تقادم حديثها وتأخر حديثنا، ثبت أنَّه ناسخٌ له.
ومما يُستدل به على صحة مذهبنا في هذا الباب من طريق النظر: أنا نقيس جلد الميتة على لحمها؛ إذ لا خلاف أن لحمها لا يطهر على وجه من الوجوه، كذلك يجب أن يكون جلدها، والمعنى أنَّه بعض من أبعاض ميتة صار نجساً بالموت.
ويمكن أن يقاس ما دبغ منه على ما لم يدبغ؛ بعلة أنَّه جلد ميتة، وليس لمخالفينا في هذا علة صحيحة، على أنهم إن علّلوا لمذهبهم، أمكننا أن نرجح علتنا بكونها حاظرة، وبأن الإحتياط معها، وبهذين الترجيحين ندفع قول من يقول: إن تأويلكم لخبرنا ليس بأولى من تخصيصنا خبركم بخبرنا، فبان بما بيّنا صحة مذهبنا.
مسألة: [ في أشعار وأصواف وأوبار الميتة ]
قال: فأما ما كان عليها من الأشعار والأصواف والأوبار، فطاهرٌ إذا غُسِل.(2/51)


وهذا قد نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام) (1) في كتاب اللباس، ورواه القاسم(2) عليه السلام، وقال محمد بن يحيى عليه السلام: إذا كان مما يؤكل لحمه.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الباب قول اللّه تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهِا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} الآية، فوجب أن يكون ذلك عاماً في جميع الأصواف والأوبار والأشعار التي تكون للحي والميت.
وروى الأوزاعي، عن يحيى بن كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: سمعت أم سلمة، قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (( لا بأس بصوف الميتة وشعرها إذا غسل بالماء )).
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من قوله: (( إنما حرم أكلها ))، يدل على أن التحريم يتناول ما يتأتى فيه الأكل، والشعر والصوف مما لا يتأتى فيه الأكل، فثبت أن التحريم لم يتناوله.
فإن قيل: قول اللّه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمْ الْمَيْتَةُ} يدل على تحريم شعرها وصوفها، لأنهما من الميتة؟
قيل له: لسنا نسلم أنهما من جملة الميتة، ولا معنى لاستدلالكم بالآية.
وكذلك الجواب لمن تعلق بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء )) لأنهما ليسا من الميتة.
يبين ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ماقطع من الحي فهو ميت ))، ولا خلاف أن الصوف والشعر والوبر يقطع من الحي ويكون طاهراً، فعُلِم أنهما ليسا من جملته، وإذا لم يكن من جملة الحي، لم يكن من جملة الميت(3)، على أن ما يؤخذ من الميتة من الصوف مقيس على ما يؤخذ منها في حال حياتها؛ والعلة أنَّه صوف حيوان طاهر في حال حياته، فوجب أن يكون حكمهما في الطهارة حكماً واحداً.
مسألة [ في عظم الميتة وعصبها وقرنها ]
قال القاسم عليه السلام: "وعظم الميتة نجس وعصبها وقرنها".
__________
(1) ذكره في الأحكام 2/414، بلفظ مقارب.
(2) كذا في النسخ ولعل الصواب: ورواه عن القاسم.
(3) في (ب) و(ج): الميتة.(2/52)


وهذا ما قد رواه عنه يحيى عليه السلام في كتاب اللباس من (الأحكام) (1).
وقلنا في القرن سوى الأطراف التي لا يؤلم قطعها تخريجاً من قولهما جميعاً في هذا الكتاب في شعر الميتة وصوفها ووبرها إنها ليست بنجسة؛ لأنها تؤخذ من الدواب وهي حية، فلما كانت أطراف القرون هذه سبيلها، وجب أن يكون القول فيها كالصوف والشعر والوبر على قولهما.
والذي يدل على نجاسة ما نجسه القاسم عليه السلام من عصبها ولحمها(2) وعظمها وقرنها، قول اللّه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وهي من الميتة.
وقوله عليه السلام: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تنتفعوا من الميتة بأهابٍ، ولا عصبٍ )).
ويمكن أن تقاس هذه الأشياء على لحم الميتة؛ بعلة أنها بعض من أبعاض ميتة صارت نجسة بالموت.
مسألة [ في شعر الخنزير ]
قال: وشعر الخنزير نجس، لا يطهره الغسل.
وقد نص عليه يحيى عليه السلام في كتاب اللباس من (الأحكام) (3).
والوجه فيه قول اللّه تعالى: {أَو لَحْمَ خِنْزِيْرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقٌ} فحكم فيه بالنجاسة وهو حي، وإذا ثبت أنَّه نجس في حال حياته، فالموت لا يزيده طهارة، فثبت أن شعره على كل حال نجس.
مسألة [ فيما يزيل النجاسة ]
ولا يُزال النجس عن الثياب والبدن بشيء من المائعات سوى الماء.
وها قد أشار إليه يحيى عليه السلام في كتاب الطهارة من (الأحكام)، حيث يقول: (( ألا ترى أن الطُّهْر لا يقع اسمه على شيء حتى يُطَهَّر، وتطهيره غسله وإنقاؤه بالماء )) (4).
والذي يدل على ذلك أن التطهير أمر شرعي لا يمكن إثباته إلاَّ شرعاً، وقد وردت الشريعة بكون الماء مُطهِراً، ولم ترد بكون غيره مطهراً، فلم يَجزِ التطهر بغيره.
__________
(1) ذكره في الأحكام 2/415، إلا أنه هنا بالمعنى.
(2) سقطت من (أ).
(3) ذكره في الأحكام 2/414، إلا أنه لم يقل أنه نجس، بل يحرم لبسه.
(4) ذكره في الحكام 1/78.(2/53)


فإن قيل: قول اللّه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، يدل على ذلك، لأن عمومه يقتضي الأمر بالتطهير بجميع المائعات.
قيل له: هذه الآية اقتضت وجوب التطهير، لا بيان ما يقع به التطهير، وعندنا أن الذي يقع بالمائعات سوى الماء لا يكون تطهيراً.
فإن قيل: إن الغرض هو إزالة النجاسة(1)، فإذا زال بما زال، يجب أن يعود الشيء إلى أصل الطهارة.
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت، بل يجب إزالة النجس بما يوجبه الشرع، ألا ترى أن الثوب إذا أصابه البول ثم وقعت عليه الشمس حتى ينشف البول وتزيله لم يطهر الثوب، على أنا لا نسلم أن سائر المائعات تزيل النجس، لأن المائع ينجس بملاقاة النجس، فلا يزال الشيء نجساً، وليس كذلك الماء، لأن الشرع قد حكم بأن الماء إذا استعمل على الوجه الذي أمرنا(2) باستعماله، طهّر النجس وأزال نجساته.
على أنَّه لولا الشرع، لم يكن لأحد أن يقول: إن الماء يُطهِر كما ذكرناه في المائعات من أنها تنجس بملاقات النجس.
وليس لأحد أن يقول: إن المشاهدة تقضي بزوال النجاسة، لأن النجاسة لا يحكم بزوالها بأن لا يشاهد فلا معنى له؟
على أنا نقيس إزالة النجس على إزالة الحدث بمعنى أن كل واحد منهما مراد للصلاة، فإذا لم يجز أحدهما بسائر المائعات، فكذلك الآخر.
ونقيسهما أيضاً على المرق والدهن؛ بعلة أنَّه مائع سوى الماء، وقياسنا أولى من قياسهم؛ للحظر، والإحتياط، وفعل الكافة من المسلمين.
ولقياسنا الثاني ترجيح آخر بالتجانس، لأنَّه قياس صحيح، وهو قياس ماهو سوى الماء على ما هو سوى الماء، وهم إذا قاسوها على الماء قاسوا ما سوى الماء على الماء.
مسألة [ في الطهور بالماء المسخن ]
قال: ولا بأس بالطهور بالماء المسخن.
وهذا قد نص عليه القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي).
__________
(1) في (ب) و(ج): النجس.
(2) في (ب) و(ج): أمر.(2/54)

12 / 138
ع
En
A+
A-