قال: وأرض افتتحها المسلمون، وتركوها في أيدي الذين كانت لهم من قبل وضربوا عليها خراجاً، أو عوملوا على شيء بعينه من النصف أو الثلث أو أقل أو أكثر، فهي أرض خراج، يؤخذ ذلك منهم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل في هذا أن الإمام إذا افتتح أرضاً عنوة، كان فيها بالخيار، إن شاء قسمها بين الغانمين، فصارت ملكاً لهم، وإن شاء تركها في أيدي أهلها، وضرب عليها خراجاً ومقاسمة، واحتج لذلك يحيى بن الحسين عليه السلام، أن قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح خيبر، ففقسم بعضها بين الغانمين، وعامل على بعضها بالنصف، فتركها في أيدي الذي كانت لهم أولاً، يعملونها ويؤدون نصف ما يخرج.
وذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قالك حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا الربيع بن نسليمان المؤذن، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، قال: حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، قال: قسم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم خيبر نصفين، نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً.
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أبو عون الزيادي، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: (أفاء اللّه خيبر، فأقرها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في أيديهم، كما كانت وجعلها بينه وبينهم، وبعث عبدالله بن رواحة، فخرص عليهم.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثثا الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: أخبرنا وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، قال: لو لا أن يكون الناس يباباً ليس لهم شيء، ما فتح اللّه على قرية إلاَّ قسمتها، كما قسم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم خيبر.(29/11)
فدل هذان الخبران على ما روي عن سهل بن أبي حثمة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم بعض خيبر بين المسلمين، وبعضها لنوائبه وحاجته؛ إذ في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرهم كما كانوا.
وفي حديث عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسمها، فكان كل واحد منهما ـ أعني جابراً وعمراً ـ أخبر عن بعض خيبر.
فدل هذان الخبران على أن للإمام الخيار في الأرض المغنومة، بين أن يجعلها بين الغانمين، وبين أن يتركها في أيدي أهلها على خراج يضربه، أو مقاسمة، وأنها لا تصير ملكاً للغانمين، إلاَّ بتمليك الإمام لهم.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل في أيدي الذين كانت لهم من قبل ما كان خالصاً له مما لم يوجف عيله بخيل ولا ركاب، دون ما غنمها المسلمون.
قيل له: هذا غلط، وذلك أن الخالص لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان أرض فدك، وقيل أرض بني النضير أيضاً، فأما خيبر فلم يختلفوا في أنها كانت مغنومة.
وفي حديث سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم خيبر نصفين، نصفاً لنوائبه، ونصفاً بين المسلمين.
وفي حديث جابر: أفاء اللّه خيبر فأقرهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، إلى آخر الحديث. والأخبار واردة في هذا الباب في خيبر، ولا التباس في أنها افتتحت وغنمت لتواتر الأخبار بها.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك بعد ما استطاب نفوس الغانمين.
قيل له: لو كان ذلك كذلك لنقل، ولم يكن ليخفى، ولما لم ينقل، علمنا أنَّه لا أصل له.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل ذلك في أيدي اليهود على سبيل المزارعة أ والإجارة للمسلمين، فكان الملك للغانمين.
قيل له: هذا فاسد من وجهين:
لأن ذلك لو كان على ما ذكرتم، لوجب أن يكون المسلمون هم العاقدين، أو أن يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بتوكيلهم إياه، ولو كان ذلك كذلك لنقل.(29/12)
والثاني: أنَّه لا خلاف في أن المزارعة والإجارة لا يصحان إذا لم يكونا إلى مدة معلومة. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل ذلك إلى مدة معلومة، على أن الأرض لو كانت للمسلمين، وكانت في أيدي اليهود على سبيل المزارعة، لوجب عليهم فيها العشر، ولم يرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ من غلة خيبر العشر.
فإن قيل: يجوز أن يكون الذي وقفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أرض خيبر على نوائبه، كان من جملة الخمس، الذي لا حق للغانمين فيه.
قيل له: هذا لا معنى له؛ لأن سهل بن أبي حثمة روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم خيبر نصفين، نصفاً لنوائبه وحاجته، ونصفاً بين المسلمين، والخمس لا يكون نصفاً.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة عنوة بالسيف، ومن على أهلها، وأقرهم على أملاكهم فيها.
[مسألة في فتح مكة]
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن مكة فتحت صلحاً.
قيل له: لا يقول ذلك من عرف الأخبار والمغازي؛ لأن كل من نقل المغازي نقل أنها فتحت عنوة، ثم الأحوال التي جرت كلها تدل على أنها فتحت عنوة، فمنها أنَّه لم يعرف لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صلح انعقد بينه وبين أهل مكة، إلاَّ صلح الحديبية. وقد نقضته قريش بما كان منها في غزاعة، وهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إعانتها بكراً، وهم حلفاء قريش، وكانت خزاعة حالفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية.(29/13)
ومما يدل على أن ما جرى من قريش في ذلك كان نقضاً ما تظاهرت به الأخبار من مجي أبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتجديد الصلح، فلم يكلمه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء إلى أبي بكر فأبى، ثم أتى عمر، فقال له ـ على ما رواه ابن جرير الطبري ـ: أنا أشفع لكم إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: والله لو لم أجد إلاَّ الذر لجاهدتكم. ثم جاء إلى فاطمة وإلى أمير المؤمنين، فقال له علي: يا أبا سفيان، لقد عزم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه، ولا أعرف لك شيئاً، ولكنك سيد بني كنانة، فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. فقال: أو يغني ذلك شيئاً؟ قالك لا ولكني لا أعرف غير ذلك، فقالم أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس إني أجرت بين الناس، وانصرف، فحكى ذلك لأهل مكة، فقالوا له: ويلك ما زاد على علي أن لعب بك، فما يغني عنها ما قلت.
فكل هذا يبين أن الصلح كان قد انتقض، ولولا ذلك لما جاء أبو سفيان لتجديده إذ جاء، ثم يرده أبو بكر وعمر وأمير المؤمنين عليه السلام وفاطمة رحمها الله، ولقالوا له: ما يجشمك من صلح هو باق منعقد.
وما روي أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى قريش يخبرهم بما أجمع عليه رأي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من المسير إليهم، ودفع الكتاب إلى امرأة من مزينة، فجعلته في رأسها، وفتلت عليه شعرها، حتى عرف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فأنفذ في أثرها علياً عليه السلام والزبير، حتى أخذا الكتاب منها، فلو كان الصلح باقياً، لكان ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العزم على المسير إليهم غدراً، وقد نزهه اللّه تعالى عن ذلك.
ثم ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد المسير إلى مكة، وتقدم إلى أصحابه بالجد والإستعداد، قال: ((اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش لنبغتها في بلدها))، ولا يجوز أن يدعوا بذلك على قوم بينه وينهم صلح.(29/14)
وفيما رواه ابن جرير الطبري بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر الظهران، قال العباس: يا صباح قريش، والله لئت بغتها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في بلاها، فدخل مكة عنوة إنَّه لهلاك قريش آخر الدهر، فجلس على بغلة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم البيضاء، وقالا: أخرج الأراك لعلي أرى حاطباً أو صاحب لبن، أو داخلاً مكة، فيخبرهم بمكان رسول اللّه، فيأتونه ويستأمنون.
فدل ذلك على أنَّه لم يكن هناك صلح؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حصل بينه وبين قوم صلح لا يجوز أن يهلكهم؛ ولأن لصلح لو كان باقياً لم تحتج قريش أن تأتي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مستأمنين.
وفي الحديث أن العباس لما سار لقي أبا سفيان، فقال له: ما وراءك؟ قال العباس: رسول اللّه ورائي، قد زلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين، فلولا أن صلى الله عليه وآله وسلم كان يسير لحربهم لم يكن لقول العباس عليه السلام: قد جاءكم بما لا قبل لكم به معنى، فقال أبو سفيان: فمتى تأمرني؟ فقال له العباس: تركب عجز هذه البلغة فأستأمن لك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فواللّه لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فكيف يقول ذلك لرجل يكون عظيم قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلح منعقد.
وفي الحديث أنَّه ركب وسار به العباس حتى مر به على عمر، فقال له: الحمد لله الذي مكن منك من غير عقد، ولا عهد، وهذا تصريح بأنه لم يكن عقد باق، وكل ذلك يدل على أن الصلح الواقع بالحديبية كان منتقضاً، ولم يرو في شيء من الأخبار أنَّه عقد صلحاً آخر بعد ذلك الصلح.
ثم مما يدل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة حرباً قوله: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن))، فلو كان القوم آمنين بالصلح، لم يكن لتخصيص هؤلاء بالأمان معنى.
يدل على ذلك ما:(29/15)