قيل له: هذا منتقض بالأرز والزبيب والتمر؛ إذ هي من الأقوات في كثير من البلدان، على أن قياسهم إن سلم كان قياسنا مرجحاً؛ لأنا رددنا الأجناس المختلفة إلى الأجناس المختلفة، وهم ردوا الأجناس المختلفة إلى الأجناس المتفقة، فكان فرعنا بأصلنا أشبه من فرعهم بأصلهم.
وقال مالك: تضم القطنية بعضها إلى بعض كالعدس والحمص، والباقلاء واللوبيا، وما قدمنا يبطل قوله هذا؛ لأنَّه لا أحد فرق بينهما.
مسألة
قال: ولا تؤخذ القيمة من شيء مما ذكرنا لا مما يكال ولا مما لا يكال، وإنما تؤخذ من عين ما وجبت في الصدقة، إلاَّ أن يكون قثاء، أبو بطيخاً، أو ما أشبه ذلك مما يأتي في السنة دفعات كثيرة، ولا يمكن حبس أولها على آخرها، فإنها تؤخذ من ثمنها آخراً إن بلغ مائتي درهم أو أكثر من ذلك عشرة، أو نصف عشره، على قدر سقيه.
قال: فإن خرج منها في كل دفعة ما يكون قيمته مائتي درهم أخذت الصدقة من عينه، ولم تؤخذ من قيمته.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، وقد مضى الكلام في أن القيمة لا تؤخذ من المزكي بدلاً مما وجب فيها في باب صدقة المواشي، فلا غرض في إعادته.
وقلنا في الخضراوات التي لا يمكن حبس أولها على آخرها: إن الشعر يؤخذ من قيمتها؛ لأنها تصير مستهلكة أولاً فأولاً، ولا يحصل منها القدر الذي تجب فيه في الزكاة، إلاَّ في آخرها وبعد استهلاك أولها، فإذا استهلكها صار ضامناً لها وفاتت العين التي كان الحق متعلقاً بها، فقلنا: إنَّه يؤخذ منها القيمة إذا لم يكن سبيل إلى أخذ العين، وأما إذا أدرك منها في دفعة واحدة ما يكون قيمته مائتي درهم أخذ من عينها؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى العدول عنها إلى قيمتها.
والأولى على أصل الهادي عليه السلام: إن باع من ذلك ما قيمته مائة وثمانون درهماً وبقي ما قيمته عشرون درهماً، أن يخرج من ذلك إلى الفقراء بعينه، إن أمكن ذلك، ولم تدع الضرورة إلى بيعه.
مسألة(29/6)


قال: والعسل يعمل في تزكيته كما يعمل في سائر ما ذكرناه مما لا يكال مما أخرجت الأرض.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والدليل على وجوب الصدقة فيه قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وهو من جملة الأموال.
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن يحيى بن سعيد، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي عسلاً فما أخرج منه؟ قال: ((من كل عشر قرب قربة))، واحتج الهادي إلى الحق عليه السلام بهذا الحديث.
وروى محمد بن منصور بإسناده عن أبي سيارة المتعي، قال: قلت يا رسول الله، إن لي عسلاً؟ قال: ((أدِّ العشر)).
فإن قيل: روى محمد بن منصور، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: ((ليس في العسل زكاة)).
قيل له: نحصله على اليسير منه كما قلنا ذلك فيما روي عنه عليه السلام في الخضراوات ليكون ذلك موافقاً لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والوجه في اعتبار نصابه بأن تكون قيمته مائتي درهم كما مضى في صدقة ما لا يكال مما أخرجت الأرض، فلا غرض في إعادته.
مسألة
قال: وينبغي أن تؤخذ أعشار الزروع قبل أن يرفع منها شيء لمؤنة من حفر أو دلو أو نفقة عمال أو غير ذلك.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
والأصل في ذلك:
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيما سقت السماء العشر، فأوجب فيه العشر ))، من غير أن يستثني شيئاً من ذلك، وـ أيضاً ـ جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المأخوذ مما يسقى بالدوالي نصف العشر، فلو وجب أن يعتبر غيره لذكره صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المأخوذ مما يسقى بالدوالي إلى نصف العشر، يدل على أن المؤمن معتبر بها، وهذا يسقط قولكم: إنَّه لا اعتبار بها.(29/7)


قيل له: لسنا نقول: إنَّه لا اعتبار بها أصلاً، لكنا نقتصر على اعتبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنا لو قلنا بخلاف ذلك؛ لأسقطنا اعتباره صلى الله عليه وآله وسلم، ولم نجعل له حكماً؛ إذكان يكون المأخوذ أبداً بعد حط المؤن، فكان لا يكون لأخذ نصف العشر مما يسقى بالدوالي فائدة ولا معنى؛ لأن المأخوذ منه أبداً يكون الفاضل عن المؤن.
وـ أيضاً ـ لا خلاف في أن من كانت له أربعون شاة سائمة يلزمه شاة من غير مراعاة أجرة الراعي، ومؤنة العلف إن احتيج إليها في بعض الأوقات، فكذلك يجب أن يكون حكم الزرع وما يؤخذ منه.
باب القول في أحكام الأرضين
اعلم أن أحكامها تختلف.
فمنها أرض افتتحها المسلمون عنوة، فاقتسموها بينهم، فهي لهم ملك، ولا يلزمهم فيها إلاَّ العشر.
وأرض أسلم عليها أهلها طوعاً، فليس عليهم فيها إلاَّ العشر.
وأرض أحياها رجل مسلم، فهي له، ولا يلزمه فيها ـ أيضاً ـ إلا العشر.
وهذا منصوص علي في (الأحكام).
والأصل فيه أن الأرضين التي سبيلها ما ذكرنا صارت ملكاً للمسلمين من غير أن تعلق بها حق لأحد، فلم يلزمهم فيها إلاَّ العشر أو نصف العشر؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالدوالي نصف العشر))، على أن هذه الجملة لا خلاف فيها بين المسلمين، وإنما الخلاف في أرض الفتوح أنها تكون ملكاً للغانمين بنفس الغلبة، أو بأن يقسمها الإمام فيما بينهم إذا رأى ذلك صلاحاً، وسنبين الكلام فيه بعد هذه المسألة.
مسألة
قال: وأرض أجلي عنها أهلها من غير أن يوجف عليهم بخيل ، ولا ركاب فهي لإمام المسلمين، ولا يلزمه فيها إلاَّ العشر.
نص في (الأحكام) على أن الأرض التي هذه سبيلها يكون الإمام أولى بها يصرفها حيث شاء ورأى.(29/8)


وقال ـ أيضاً ـ في كتاب السير من (الأحكام) عند ذكر الغنائم: والصفي منها وما كان من الحق، والحكم في ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فهو للأئمة المحققين من أهل بيته. ونص ـ أيضاً ـ على أن سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخمس يكون للإمام.
فحقق أن سبيل الإمام في سبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقلنا: أنَّه لا يلزمه فيها إلاَّ العشر؛ لأنها إذا صارت ملكاً له كان حكمها حكم الأرض، التي مضت ذكرها قبل هذه المسألة.
والأصل في هذا ما صح بالأخبار المتواترة أن فدك لما أجلي عنها أهلها من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب صارت لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال اللّه تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رُكْابٍ}، فبين أن ما أفاء اللّه على رسوله هذه صفته، فإذا ثبت أن ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ثبت أنه يجب أن يكون بعده للإمام، إذ هو القائم مقامه في أمور المسلمين وسد شملهم وتحمل أعباء ما عرض لهم، على أن ما هذا سبيله من الأرضين لا يخلو من أن يكون لجميع المسلمين ولمصاحلهم العامة، أو يكون خاصاً للإمام، ولا يجوز أن يكون لجميع المسلمين ولمصالحهم العامة؛ لأن ما كان هذا سبيله لا يجوز أن يستبد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي استبداده عليه السلام بفدك، دلالة على أن ما أجلي عنها أهها، لا يكون لجميع المسلمين، فإذا ثبت أنها لا تكون لجميع المسلمين، ثبت أنها لخاص منهم، فلم يجعلها أحداً خاصةً إلا جعلها لإمام المسلمين.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استطاب نفوس المسلمين للإستبداد بها واستوهبها منهم.
قيل له: ذلك فاسد لوجوه:(29/9)


أحدها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المسألة، فروى سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما روى عنه أبو داود في السنن أنَّه قال: ((المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، ومن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بداً)).
وروى قبيصة بن مخارق الهلالي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث طويل ـ، قال: ((إن المسألة لا تحل إلاَّ لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة، ورجل أصابته جائحة، فاجتاحت ماله، ورجل أصابته فاقة، وما سواهن من المسائل، سحت يأكلها الرجل سحتاً)).
وروي عن صلى الله عليه وآله وسلم ((المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع))، فإذا ثبت أن المسألة لا تحل لمن يجز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استوهب فدك من المسلمين؛ لأن ذلك يكون ضرباً من المسألة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن ذلك.
والوجه الثاني: أنها لو كانت لجماعة المسلمين، لدخل فيهم الطفل، ولا يجوز الإستيهاب من الطفل، ولا يجري ذلك مجرى الغنيمة التي تكون لأقوام بأعيانهم، ولا يكون فيهم إلاَّ بالغاً.
والوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان استوهبها من المسلمين، لظهر ذلك ونقل، ولما لم يرو أنَّه فعل ذلك، علم أنه لا أصل له.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أمسكها للمسلمين، ولم يمسكها لنفسه.
قيل له: عندنا نه صلى الله عليه وآله وسلم كان جعلها نخلاً لفاطمة صلوات اللّه عليها، وقد تظاهرت به الأخبار، على أن أبا بكر صرفها عن فاطمة عليها السلام بأن قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة))، فلو كان صلى الله عليه وآله وسلم أمسكها للمسلمين دون نفسه، لكان أبو بكر يقول ذلك، ولم نحتج إلى إبطال إرث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صرف فاطمة عن فدك.
مسألة(29/10)

118 / 138
ع
En
A+
A-