باب القول في زكاة ما أخرجت الأرض
يلزم العشر في كل ما أخرجت الأرض إن كان سقيه سيحاً أو بماء السماء، أو ما كان مما يسقى بالدوالي والخطارات، ففيه نصف العشر، وإن كان يسقى نصف السنة بالدوالي ونصفها سيحاً، أخذت الصدقة بحساب ذلك.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب).
وذهب بعض الفقهاء إلى أنَّه لا زكاة إلاَّ فيما يقتات.
والذي يدل على ما ذهبنا إليه قول اللّه تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً..} الآية، وهذا عام في جميع الأموال، وقوله تعالى: {انْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مَنْ الأَرْضَ}، وهذا عام في كل ما أخرجت الأرض.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرَّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ..} الآية، فأوجب فيها حقاً، ولا حق سوى الصدقة يجب.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} راجع إلى الزرع دون الثمار؛ لأن الحصد يستعمل في الزرع دون الثمار؟
قيل له: الحصد هو الإستئصال، فكلما أخذ من ثمر أو زرع لم يمتنع أن يستعمل ذلك فيه، على أن التعلق بقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} هو أنَّه راجع إلى جميع ما تقدم، فلو سلمنا أن قوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ} راجع إلى الزرع لم يممتنع أن يكون قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ} راجع إلى جميع ما تقدم.
فإن قيل: المراد به غير الزكاة وهو منسوخ؟
قيل له: لا يمكن إثبات النسخ إلاَّ بدلالة، وإذا كان هذا هكذا، وأثبتت الآية حقاً في الثمار والزرع، وأجمعوا أن لا حق فيها سوى الزكاة، ثبت أنَّه هو الزكاة.
ويدل على ذلك ما:(29/1)


أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع، قال: حدثنا أبو الأسود، قال: حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض فيما سقت الأنهار والعيون أو كان يسقى بماء السماء، العشر، وفيما كان يسقىالناضح، نصف العشر.
وأخبرنا المقري، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث أن أبا الزبير حدثه أنَّه سمع جابراً يذكر عن النبي (ص) أنَّه قال: (فيما سقت الأنهار والعيون العشر، وفيما يسقى بالسانية نصف العشر).
فإن قيل: روي عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (ليس في الخضروات صدقة).
وروي نحوه عن علي عليه السلام. وعن عائشة: جرت السنة على أن لا صدقة في الخضروات.
قيل له: لا يمتنع أن يكون المراد به خضروات المدينة من حيث لم تكن تبلغ القدر الذي تجب فيه الزكاة، وبهذا يسقط قولهم: إن الخضروات كانت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يروى أنه أخذ منها صدقة؛ إذ معلوم في كثير من بلاد الريف والخصب أن الخضروات لا تكاد تجتمع في ملك الرجل الواحد حتى تبلغ الحد الذي تجب فيه الصدقة، إلاَّ نزراً، فكيف بلاد الحجاز.
فإن قيل: فهلا بنيتم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيما سقت السماء العشر ))، مع الآيات التي تعلقتم بها على قوله (ليس في الخضروات صدقة) ومن مذهبكم بناء (318)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا نقص من من صفحة 73 ـ 80
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
حتى يبلغ خمسة أمناء، وفي القطن حتى يبلغ خمسة أحمال، قال: والحمل ثلاثمائة مناً بالبغدادي، وفي العسل حتى يبلغ خمسة أفراق، وهذا الاعتبار لا يصح؛ لأن أحوال البلدان تختلف في هذه التقديرات؛ ولأنه ليس له أصل يرد إليه.(29/2)


وما اخترناه أصح لما قيل فيه؛ لأن له أصلاً في الشريعة، وهو أموال التجارة على مابيناه، والأصل تشهد لقياسنا؛ لأن التقويم مرجوع إليه في تعرف ما يلتبس من الأروش، وغيرها، فإذا ثبت التقويم وحصل فلا وجه لطلب تقويم ثان كما ذهب إليه أبو يوسف.
واعتبرنا أن يكون قيمة ما يخرج مائتي درهم في السنة الواحدة؛ لأنَّه لا خلاف أن الأوسق تعتبر في سنة واحدة.
مسألة
قال: وأما العنب فإنه يخرص، فإن غلب في الظن أنَّه إذا زبب بلغ خمسة أوسق وجبت فيه الصدقة، وإن كان دون ذلك لم يجب.
نص في (الأحكام) و(المنتخب) على أن العنب إن كان يزبب، فإنه يخرج منه عشره، أو نصف عشره كما يخرج من سائر الحبوب.
وقال في (الأحكام): إن كان مما لا يزبب خرص، فإذا كان قدراً يبلغ عند التزبيب خمسة أوسق أخرجت منه الصدقة.
وقال في (المنتخب): إن كان مما لا يزبب فسبيله سبيل سائر ما لا يكال، في أنه يجب أن يقوم، وما ذكره في (الأحكام) هو الأصح والأقوى، وهو المعمول عليه عند أصحابنا.
والأصل في ذلك ما: رويناه بإسناده في مسألة الخرص، عن علي بن الحسين، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بخرص أعناب ثقيف كخرص النخل، ثم تؤدى زكاته زبيباً كما تؤدى زكاة النخل تمراً.
وما رويناه بإسناده، عن ابن المسيب، عن عتاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يخرص العنب زبيباً كما يخرص التمر، ولا خلاف أن التمر لا يقوم، فوجب أن يكون الكرم لا يقوم؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بخرصه كما تخرص النخل؛ ولأنه لو قوم لم يحتج فيه إلى الخرص، فلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخرص علم أن لا تقويم فيه.(29/3)


وـ أيضاً ـ وجدنا التقويم إنما يطلب في التزكية للشيء إذا لم يكن له في نفسه وجنسه نصاب، يدل على ذلك أن شيئاً مما له في نفسه وجنسه نصاب لا يطلب تقويمه؛ لأن المطلوب بالتقويم إنما هو النصاب، فوجب على هذا أن لا يقوم العنب؛ لأنَّه مما يزبب ويوسق، فيكون له في نفسه وجنسه نصاب، فهو أولى أن يعمل به.
ووجه رواية (المنتخب) أنَّه لما وجد العنب قبل أن يصير زبيباً مما لا يكال ولا يوسق، لم يجعل له في نفسه نصاباً، ولما لم نجد له نصاباً رجع إلى التقويم كما عمل في سائر ما لا نصاب له في نفسه.
مسألة
قال: ولا يضم شيء من الأجناس إلى غيره لتجب فيه الزكاة لو كان عنده خمسة أوسق إلاَّ صاعاً من الحنطة، ومثله من الشعير، ومثله من الذرة، ومثله من الأرز لم يلزم في شيء منه زكاة، وكذلك إن كان له خوخ قيمته مائة وتسعون درهماً، ومثله من الأجاص، ومثله من الرمان، ومثله من البطيخ، لم يلزم في شيء منه زكاة، وكذلك القول في القطن والحناء والقضب والكتان.
نص في (الأحكام) على هذه الجملة، وهو قول عامة الفقهاء، وحكي عن مالك أنَّه قال: تضم الحنطة إلى الشعير.
والأصل في ذلك حديث جابر، وقد ذكرناه بإسناده في مسألة زكاة الذهب والفضة، قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا صدقة في شيء من الزرع والكرم حتى يبلغ خمسة أوسق))، فاقتضى ذلك أن لا صدقة في البر والشعير حتى يكون كل واحد منهما خمسة أوسق؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: ((لا صدقة في شيء من الزرع))، تناول ذلك كل زرع من بر أو شعير أو غيرهما على حياله، ثم قال: ((حتى تبلغ خمسة أسق ))، فكان ذلك راجعاً إلى كل ذلك منه؛ لأن تقديره في الكلام أن يقول: لا صدقة في البر حتى يكون خمسة أوسق، ولا صدقة في الشعير حتى يكون خمسة أوسق، ولا صدقة في الأرز حتى يكون خمسة أوسق.
ويدل على ذلك ما:(29/4)


رواه زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((ليس فيما أخرجت أرض العشر صدقة من تمر، ولا زبيب، ولا حنطة، ولا شعير ، ولا ذرة حتى يبلغ كل صنف من ذلك خمسة أوساق)).
وروى محمد بن منصور، عن جعفر بن محمد الهمداني، عن يحيى بن آدم، عن شريك، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: ((ليس فيما دون خمسة أوساق من الحنطة والعشير والتمر والزبيب صدقة تؤخذ))، فليس يخلوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((دون خمسة أوساق))، من أن يكون المراد به الأصناف الأربعة على الضم، أو يكون المراد به صنف منها على الإنفراد، ولا يجوز أن يكون المراد به الأصناف الأربعة على الضم؛ إذ لا خلاف في أن الحنطة لا تضم إلى التمره، فوجب أن يكون المراد به كل منفي على الإنفراد، وهو الذي نذهب إليه.
وـ أيضاً ـ قد ثبت أن البر والشعير جنسان مختلفان؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((البر بالبر، والشعير بالشعير، ها بها يداً بيد))، وفي بعض الأخبار: ((بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم)). وثبت أن لا مسرح للتقويم في تزكيتهما، فوجب أن لا يضم بعضه إلى بعض؛ قياساً على التمر، وعلى الإبل البقر؛ بعلة أنهما جنسان مختلفان لا مسرح للتقويم في تزكيتهما ما لم يكونا للتجارة.
ومما يبين أن كل واحد منهما جنس مخالف للآخر أن كل واحد منهما قد خص باسم لا يرجع إلى صاحبه بنوع ولا صفة، فلا يقال: بر شعير، ولا شعير بر، كما يقال: تمر صيحاني، وتمر أزاذ، وعنب ملاحي، ولا يعترض على ذلك المعز والضأن؛ لأن اسم الشاء يجمعهما وبه تعلق الحكم.
فإن قيل: إنهما في غالب البدلان قوت الناس، والمقدار في زكاتهما واحد، فكانا كأنواع البر.(29/5)

117 / 138
ع
En
A+
A-