فإن قيل: روي عن أبي هريرة، أنَّه ذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الخيل، فقال: ((ثلاث لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له ستر، فالرجل يتخذها تكرماً وتجملاً، ولا ينسى حق اللّه في ظهورها ورقابها، وأما الرجل الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، وأما الذي له وزر، فرجل ربطها فخراً ورياءً لأهل الإسلام))، فدل ذلك على أن لله حقاً في ظهورها ورقابها، وسائر الحقوق غير واجب، فثبت وجوب الصدقة.
قيل له: قد يجب لله في رقابها وظهورها حقوق سوى الصدقة.
منها: حمل من يخاف ضياعه وتلفه من المسلمين عليها إن لم يحمل. ومنها: ركوبها للجهاد. ومنها إعارتها في الجهاد وغيره.
وقد أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا شريك بن عبدالله، عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة ابنة قيس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((في المال حق سوى الصدقة ))، وتلا هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ..} إلى آخر الآية، فإذا كان الأمر على ما ذكرناه، لم يجب أن يكون الحق الذي ذكره صلى الله عليه وآله وسلم هو الصدقة، وقد قيل: إنَّه لا يمتنع أن يكون الحق الذي ذكره عليه السلام من النذور.
على أنَّه يحتمل أن يكون أراد به الخيل التي تكون للتجارة، فكل ذلك يبين أن الخيل ليس فيها صدقة السوم.
فإن قيل: روي عن السائب بن يزيد، قال: رأيت أبي يقوم الخيل، ويدفع صدقتها إلى عمر.
قيل له: يحتمل أن يكون قوم خيل التجارة، على أنَّه قد روي أن عمر أخذ صدقة الخيل على غير طريق الوجوب.(28/35)


أخبرنا بذلك أبو بكر المقرئ، قال: حدثا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا محمد بن القاسم المعروف بسحيم الخراز، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرب، قال: حججت مع عمر، فأتاه أشراف من أشراف أهل الشام، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا قد أصبنا دواباً وأموالاً، فخذ من أموالنا صدقة تطهرنا وتكون لنا زكاة. قال: هذا شيء لم يفعله اللذان من قبلي، ولكن انظروا حتى أسأل المسلمين، فسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم علي عليه السلام، فقالوا: حسن، وعلي عليه السلام ساكت لم يتكلم معهم، فقالوا: مالك يا أبا الحسن لا تتكلم؟ فقال: قد أشاروا إليك، ولا بأس بما قالوا إذا لم يكن أمراً واجباً وجزية راتبة يؤخذون بها.
وفي هذا الخبر وجوه من الأدلة، على أن لا صدقة في سائمة الخيل، منها قول عمر في ملاء من المهاجرين والأنصار، أن الذين من قبلي لم يفعلا ذلك، وعنى بأحدهما رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينكر عليه في ذلك منكر، فجرى مجرى الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذها.
ومنها قولهم: إن ذلك حسن من غير أن قال أحدهم: واجب.
ومنها قول علي عليه السلام لا بأس بما قالوا: إن لم يكن أمراً واجباً وجزية راتبة، فنبه على أنها مأخوذة لا على سبيل الوجوب، وقبل الجميع منه ذلك فصار إجماعاً.
ولا خلاف أن لا زكاة في سائمة الحمير والبغال، فكذلك الخيل؛ والعلة أن لحومها محرمة، وكل حيوان حرم أكل لحمه لا زكاة فيه للسوم، وـ أيضاً ـ لا خلاف أنَّه لا زكاة في ذكور الخيل إذا انفردت، فكذلك في إناثها قياساً على البغال لما لم تجب الصدقة في ذكورها منفردة لم يجب في إناثها، والأصول تشهد لصحة هذه العلة؛ لأنا وجدنا الحيوان أجمع لا ينفصل ذكورها عن إناثها في باب الصدقة.
فأما الكلام فيها إذا كانت للتجارة أو الكراء فسيأتي من بعد في موضعه إنشاء اللّه تعالى.
مسألة(28/36)


قال: فإن أمسك شيء مما ذكرنا للركوب أو ما أشبهه، لم يلزم فيه الزكاة أصلاً.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب) جميعاً.
ولا خلاف في ذلك، وما استدللنا به من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عفوت لكم عن صدقة الخيل))، وقوله : ((ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة))، يدل على أن لا صدقة فيهما في شيء من الأحوال، سواء كانت للركوب أو لغيره.
مسألة
قال: ولو أن رجلين ملكا خمساً من الإبل، أو أربعين شاة، لم يلزم واحداً منهما الزكاة، فإن كانا ملكا عشراً من الإبل أو ثمانين شاة بينهما نصفين، لزم كل واحد منهما شاة شاة، وهذا قد مضى الكلام فيه مستقصى في مسألة الخلطة، فلا وجه لإعادته.
مسألة
قال في (المنتخب): ولو أن رجلاً مات وخلف ثلاثة بنين ومائة شاة، ولم يقتسموها حتى حال عليها الحول، أخذ المصدق منها شاة.
قال: وكذلك إن بقيت في أيديهم سنين كثيرة، أخذ المصدق كل سنة شاة.
قال أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه: الوجه في ذلك أن المال يكون موقوفاً على ملك الميت حتى تجري فيه القسمة.
ويمكن أن نوضح ذلك بأن وصاياه تنفذ من ثلثة، وديونه تقضى من جميعه.
وكذلك لو وطئ رجل امرأته ثم مات، ثم حملت امرأته، وولدت، أن الولد وارث بالإجماع، ولا يجوز أن يكون ورث ساعة موت أبيه؛ لأنَّه إذ ذاك كان نطفة، ولا حكم لها، فلولا أن المال مبقى على ملكه، كان لا يورث إذا ولد.
فإن قيل: فإن جميع ما ذكرت هنا لا يتغير حكمه بالقسمة؛ لأن القسمة لو وقعت ثم ظهر الدين أو ولد الولد، لكانت القسمة تنتقض، فعلم أنها لم تقرر ملكاً لم يكن.(28/37)


قيل له: إن القسمة إذ ذاك تنتقض؛ لأنها تكون وقت غير صحيحة، والقسمة الصحيحة هي التي تقرر الملك، فلم يجب أن يكون ما ذكره مانعاً من بقاء المال على ملك المالك الميت إلى أن تجري فيه القسمة، وـ أيضاً ـ لو كان على الميت دين فأبرأه صاحب الدين لصح ذلك فجرى مجرى أن يبرئه وهو حي في أن المال يخلص للورثة، فكشف ذلك أن بالموت لا ينقطع حكم ملكه، ويمكن أن يشبه ذلك بالغنيمة، فيقال: إن الملك لا يستقر للورثة إلاَّ بعد القسمة، كما لا يستقر ملك الغانمين إلاَّ بعد القسمة؛ لأنَّه مال مملوك، ينقل الملك فيه من غير اعتبار رضاء المالك بوجه من الوجوه.
ويبين أن الغانمين لا يستقر ملكهم إلاَّ بعد القسمة ما ثبت من أنَّه إذا استحق منه مسلم شيئاً قبل القسمة أخذه، وإن وجده بعد القسمة لم يأخذه إلاَّ بالقيمة، وقد بينا ذلك فيما تقدم، وـ أيضاً ـ قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ الصفي من الغنيمة، وأنه كان ينفل منها قبل القسمة، ولا يعمل شيئاً من ذلك بعد القسمة، وكل ذلك يبين أن ملكهم استقر بعد القسمة، فكذلك ملك الورثة على ما بينا.
فإن قيل: فقد قال يحيى عليه السلام في (الأحكام) في (كتاب الفرائض): لو أن رجلاً ذمياً أسلم بعد موت أبيه المسلم بساعة، لم يكن له حق في الميراث؛ لأن الميراث وجب لأهله ساعة موت الميت، وهذا يبطل ما ذهبتم إليه من أن المال يكون على ملك الميت.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت؛ لأن معنى قوله: إن الميراث وجب لأهله ساعة موت الميت، هو أنَّه قد وجب قسمته فيهم، وأنه لا حق فيها لغيرهم، فعلى هذا أطلق عليه السلام لفظته هذه.
مسألة(28/38)


قال: ولو ملك رجلان ثمانين شاة، لأحدهما ثلاثة أرباعها، وللآخر ربعها، وجب فيها شاة على صاحب الأكثر، فإذا أخذها المصدق رد صاحب الأكثر على صاحب الأقل قيمة ربع شاة ولو كان بينهما مائة شاة وكان لأحدهما ثلاثة أخماسها وللآخر خمساها لزم كل واحد منهما شاة شاة، فإذا أخذ المصدق منها شاتين، رد صاحب الأقل على صاحب الأكثر قيمة خمس شاة، وكذلك القول في الإبل والبقر يكون بين الشريكين أو الشركاء.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية))، فنبه بذلك على أن المصدق يأخذ من الشريكين ما يتراجعان فيه، وهذا لا يصح إلاَّ في المسائل التي ذكرناها ونحوها.
وقلنا: إن الشاة إذا أخذت وكانت تلزم صاحب الأكثر دون صاحب الأقل، أن صاحب الأكثر يرد على صاحب الأقل؛ لأن صاحب الأقل يكون قد أخذ منه قسط لم يلزمه، وصاحب الأكثر أخذ منه دون ما يلزمه، فإذا رد رد صاحب الأكثر على صاحب الأقل ما أخذ من نصيبه، يكون قد وفى ما لزمه.
وقلنا: إنَّه إذا لزم كل واحد منهما شاة شاة، فأخذ المصدق منهما شاتين يرد صاحب الأقل على صاحب الأكثر؛ لأن صاحب الأكثر يكون قد أخذ منه أكثر من شاة، وصاحب الأقل يكون قد أخذ منه دون شاة، فإذا رد على صاحب الأكثر يكون كل واحد منهما قد أخرج شاة شاة.(28/39)

116 / 138
ع
En
A+
A-