فإن قيل: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول))، يبطل قولكم.
قيل له: عندنا أنَّه قد حال عليه حول الأمهات، وحولهن يجري في الشرع مجرى السخال؛ لدخول السخال في حكمهن في باب الحول.
ألا ترى أن الأمهات إذا بقيت فلا يختلف أن أحوال الأمهات يجري مجرى السخال، وبمثل هذا نجيب نحن وخصومنا إذا استدل بهذين الخبرين لإبطال قولنا في تزكية الفوائد مع الأصول إذا حال حول الأصل.
فصل
قال يحيى بن الحسين عليه السلام في (الأحكام): ولا يؤخذ خيارها ولا شرارها، ويأخذ الوسط منها، فدل ذلك أن المأخوذ عنده من السخال إذا انفردن سخلة؛ إذ لو أخذت مسنة كان قد أخذ خيارها.
ويحقق ذلك ما:
روي عن القاسم عليه السلام، أنَّه قال: إذا كان لرجل خمسة فصلان، أخذ منها واحداً، إلاَّ أن يكون خيراً من شاة، فيخير ربها بينه وبين الشاة، فأوجب أن يؤخذ، وإن كان دون الشاة، والشاة هي الواجبة، فيكشف ذلك عن مذهبه في السخال أن المأخوذ منه سخلة، وإن كانت دون الشاة، وهذا قول الشافعي وأبي يوسف، وحكي عن مالك وزفر أنَّه يؤخذ منها مسنة.
والأصل في ذلك ما:
روى ابن أبي شيبة، وأبو داود في السنن، عن وكيع، عن زكرياء بن إسحاق، عن يحيى بن عبدالله ابن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((إياك وكرائم أموالهم))، فلما منعه من أخذ أفضل أموالهم، دل على أنَّه لا يجوز أن يكلفوا أفضل أموالهم، على أن المسنة كريمة في السخال، ونهيه عن كرائم أموالهم، نهي عن أخذ المسنة من صاحب السخال.
ويدل على ذلك ما:
روي عن أبي بكر أنَّه قال: لو منعوني عناقاً مما أعطوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم، والعناق لا يؤخذ إلاَّ في هذه المسألة على ما أوضحنا القول فيه في المسألة التي تقدمته.(28/30)


وهي ـ أيضاً ـ مقيسة على المعيبة في أنها تؤخذ إذا كان الشاء كله معيباً؛ بعلة أنها على صفة تعم ماله.
فإن قيل: علتكم تنقض بمن كانت له ست وثلاثون ابنة مخاض أنه يكلف ابنة لبون، ويكلف خلاف الصفة التي تعم ماله.
قيل له: نحن عللنا بجواز أخذ ذلك على بعض الوجوه، ولا نعلل بإيجاب أخذه في كل موضع، فلا تنتقض علتنا بما ذكرتم، ألا ترى أن مخالفنا لا يجوز أخذ السخلة فقط على وجه من الوجوه، فإذا ثبت أنها مأخوذة على بعض الوجوه، ثبت ما ذهبنا إليه. على أن ما ذكرت يؤخذ منه ابنة مخاض، ثم يكلف تفاوت ما بينها وبين ابنة لبون.
فإن قيل: في حديث سويد بن غفلة إن مصدقاً لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((في عهدي أن لا آخذ من راضع لبن )).
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به إذا كانت الأمهات مع السخال، على أن ظاهر الخبر منع أن يكون راضع لبن مأخوذاً منه، ولم يمنع أن يكون مأخوذاً، فلا وجه للتعلق به في هذا الموضع.
فإن قيل: روي عن عمر أنَّه قال: اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها. حتى قال السعادة لعمر: إن أهل الأموال يتظلمون منا وينسبوننا إلى الحيف بأنا نعتد عليهم بالسخلة، ولا نأخذها. فقال: قد تركنا لهم الربّى والماخض والأكولة، وفحل الغنم، فدل ذلك على أن السخلة لا تؤخذ.
قيل له: هذا لا يصح التعلق به، من وجهين:
أحدهما: أنَّه قال: قد تركنا لهم الربّى والماخض والأكولة والفحل، فدل ذلك على أن قوله : ولا يأخذها، يعني السخلة، خرج على السخلة التي معها سواها.
والثاني قول السعاة: إن أرباب الأموال يتظلمون منا، وينسبوننا إلى الحيف، وفي ذلك أن قول عمر قد أنكر وخولف، وإذا كان هذا هكذا، لم يصح الاحتجاج به.
فإن قيل: إذا لم تجز السخلة في الأضحية لم تجز في الزكاة.(28/31)


قيل له: هذا منتقض بالمعيبة التي تجزي إذا كان الشاء كله معيباً على أن موضوع الزكاة يشهد لما ذهبنا إليه؛ لأنها موضوعة على الرفق لأرباب الأموال، ألا ترى أنَّه لا يؤخذ منهم فحل الغنم، ولا الأكولة، وأن الماشية يقسمها المصدق قسمين، يخير صاحب المال فيهما، ثم يأخذ الصدقة من القسم المتروك.
وـ أيضاً ـ روي ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ناقة حسنة في إبل الصدقة، فقال: ما هذه؟ فقال صاحب الصدقة إن ارتجعتها ببعير من حواشي الإبل. قال: فنعم إذاً))، فكل ذلك يبين أن صاحب المال لا يكلف أفضل مما يوجد في ماله.
فإن قيل: أليس من له ست وثلاثون بنت مخاض يكلف ابنة لبون، وإن لم تكن في ماله؟
قيل له: إن السن في هذه المسألة يجري مجرى العدد يرتفع بزيادة المال، فلذلك يجب أن لا يؤخذ دونها، كما أن من له مائة وإحدى وعشرون سخلة، لا يجوز أن يؤخذ منه دون السخلتين، على أنه عندنا لا يكلف ابنة لبون؛ بل يؤخذ منه ابنة مخاض، وفضل ما بينها وبين ابنة لبون.
مسألة
قال: والإبل السائمة، وإن حمل عليها في السنة دفعات فهي سائمة إذا كانت ترعى أكثر السنة، فإن حمل عليها أكثر السنة، وكان رعيها دون ذلك، لم لتلزمه الزكاة إلاَّ إذا كانت موقوفة للكراء أو التجارة، فإن فيها إذا حال عليها الحول ربع عشر قيمتها.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)، والوجه فيه أنَّه لا إشكال في أن الإبل السائمة إذا حمل عليها يوماً أو يومين أو أياماً أنها تكون سائمة، فبان أن السوم مراعى فيه الأغلب، وأنه ليس كالعدد والحول، ألا ترى أنَّه لو انتقص من العدد واحد، ومن الحول يوم لم تجب فيه الزكاة ، وليس كذلك إذا حمل على السائمة يوماً أو يومين.(28/32)


وـ أيضاً ـ فإن اسم السوم لا يزول عنه بأن يستعمل في بعض السنة، فوجب أن تلزمه الزكاة لحصول الاسم، وما رواه زيد بن علي عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عفى عن الإبل العوامل تكون في المصر، وعن الغنم تكون في المصر، فإذا رعت وجبت فيها الزكاة، يوجب ما قلناه؛ لأنَّه علق وجوب الزكاة بالرعي، ولم يشترط حصوله السنة أجمع.
فإن قيل: فهذا يوجب أن تلزم الزكاة، وإن كان الرعي يوماً واحداً.
قيل له: ذلك مخصوص بالإجماع؛ لأن كل من راعى السوم أبطل حكمه، إذا كان يسيراً؛ ولأن سائر ما أوجب أن تكون الزكاة في السائمة اقتضى تخصيصه؛ لأن اسم السوم لا ينطلق بأن يرعى يوماً أو يومين.
فأما إذا كان السوم نصف السنة، والعمل نصف السنة، فالأقرب أنَّه لا زكاة في؛ لأن حكم السوم يكون إذا غلب السوم، فأما إذا تساوى الاستعمال فلا حكم له.
يؤكد ذلك أن ما يسقى بالدوالي وإن سقتها السماء في بعض الأوقات، لم يتغير حكمها؛ لما لم يكن ذلك أصلاً وغالباً، فكذلك السوم لا يزيل حكم الاستعمال حتى يكون غالباً؛ لأن المستعمل ـ أيضاً ـ قد يرعى في بعض الأوقات.
فإن قيل: فهلا قلتم في هذا كما قلتم في الأرض تسقى بعض السنة سيحاً، وبعضها بالدوالي.
قيل له: لأن لكل واحد من السقيين حكماً لم يمكن الاعتراض به على صاحبه، فراعينا كل واحد منهما على حياله، ووزعنا المأخوذ عليها، وليس كذلك صدقة المواشي، فإنها وجبت في صفة هي السوم، فقلنا: إن الصفة إما أن تكون مستوفاة أو تكون غالبة، فإذا لم يحصل واحدة من الحالتين لم نجعل لها حكماً؛ إذ لا خلاف أنَّه لا اعتبار باليسير من السوم كنحوا ما يكون في يوم وأيام.
فأما ما قلناه من أنها إذا كانت موقوفة للكراء أو للتجارة، ففي قيمتها ربع العشر، فسنبين الكلام فيه في باب أموال التجارة.
مسألة(28/33)


قال: وكذلك الخيل والحمير إذا كانت للنتاج أو للكراء أو التجارة، ففيها ربع عشر قيمتها، وذكر يحيى عليه السلام صدقة الخيل والحمير في (المنتخب)، وكلامه فيها يحتمل أن يكون المراد به إذا كانت للتجارة؛ لأنَّه قال: عاطفاً على كلام له في إيحاب الزكاة في الدواب التي تكون للتجارة.
ويحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون أراد به زكاة السوم؛ لأنَّه ذكر النتاج، ونسق عليه كلامه؛ ولأنه لما فسر الخيل التي عفا عنها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: هي التي يركبها صاحبها في سبيل الله، أو إلى ضيعته ومنافعه، وليست للتجارة.
وخرج أبو العباس الحسني رحمه اللّه في (كتاب النصوص) ذلك على أن المراد به إذا كانت للتجارة.
وذكر يحيى عليه السلام الحمير مع الخيل، يؤكد تخريج أبي العباس الحسني رحمه الله؛ إذ لا خلاف أن الزكاة لا تجب في سائمة الحمير.
والأصل في ذلك ما:
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن عاصم، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق)).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ربيع، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، عن أبي عباد، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مثله.
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. وذلك عام في الخيل أجمع.
وروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة)).(28/34)

115 / 138
ع
En
A+
A-