يقال له في ذلك: أنت لو قلت بمراعاة الملك دون الخلطة فيما زاد على النصاب كما قلت فيما نقص عنه على ما نذهب إليه، لكان ـ أيضاً ـ يكون الرفق تارة لأرباب الأموال، وتارة للمساكين؛ لأن مائة وعشرين إذا كانت بين ثلاثة على سواء يكون فيه ثلاث شياة، فيكون الرفق فيه للمساكين، ويكون الرفق لأرباب الأموال في مائتي شاة وشاة إذا كانت بين نفسين سواء؛ إذ الواجب أن يكون فيه شاتان، فإذا كان الأمر على ما ذكرنا، فالقول بمراعاة الخلطة، ومراعاة الملك فيما أشرت إليه على سواء، فسقط اعتبارك، ووجب الرجوع إلى سائر ما قدمنا من الأدلة، على أن لمن يقول بالخلطة فيما دون النصاب أن يقول لمالك: وإذا لم تقل بالخلطة فما دون النصاب، جعلت الرفق أبداً لأرباب الأموال، والبخس على المساكين، فلئن وجب أن يبطل القول بالخلطة فيما دون النصاب؛ لأن الرفق أبداً يكون فيه للمساكين ليبطلن القول بمراعاة الملك فيما دون النصاب؛ لأن الرفق فيه أبداً يكون لأرباب الأموال.
مسألة
قال: ولا شيء في الأوقاص، وهي التي بين عددي ما يجب فيه الزكاة، مثل ما بين خمس من الإبل إلى عشر، بين عشر منها إلى خمس عشرة، وبين ثلاثين من البقر إلى أربعين، وبين أربعين منها إلى ستين، وبين أربعين من الشاء إلى إحدى وعشرين ومائة، وما بين ذلك منها إلى مائتي شاة شاة.
وهذه الجملة منصوص عليها في (الأحكام) و(المنتخب).
وهذا القول يحتمل وجهين:
أحدهما أن يكون المراد به أنَّه لا شيء فيه غير ما وجب في النصاب الذي قبله فيكون المأخوذ على هذا مأخوذاً عن النصاب، وعن الوقص جميعاً.(28/25)
والوجه الثاني: أن يكون المراد به الأوقاص عفو لا شيء فيها على التحقيق، فيكون المأخوذ على هذا مأخوذاً على النصاب دون الوقص، وهذا الثاني هو الأصح أن يكون مراداً، وعليه يدل الدليل؛ لأن يحيى عليه السلام قد صرح فقال في (الأحكام) وفي (المنتخب) فيما زاد على خمس وعشرين من الإبل إلى ست وثلاثين أنَّه لا شيء فيها، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عفا عنها فاقتضى ظاهر إطلاقه أن المأخوذ مأخوذ عن النصاب فقط.
والدليل على ذلك ما:
روى ابن أبي شيبة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث معاذاً مصدقاً إلى اليمن، سئل عن فضل ما بين الثلاثين والأربعين، فأبى أن يأخذ شيئاً حتى سأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((لا تأخذ شيئاً)).
وفي رواية الجصاص عن معاذ، أنَّه قال: فعرض عليَّ أهل اليمن أن يعطوني عما بين الخمسين والستين وما بين الستين والسبعين فلم آخذه، وسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ((هي الأوقاص لا صدقة فيها )).
ولابن أبي شيبة بإسناده عن الشعبي، عن علي عليه السلام، قال: ((في أربعين مسنة وفي ثلاثين تبيع وليس في النيف شيء)).(28/26)
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن عمر، قال: كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب الصدقة نسق الحديث، ثم يقول في صدقة الغنم بعد الثلاثمائة: ((فإذا زادت، ففي كل مائة شاة، وليس فيها شيء حتى تبلغ المائة))، فصرح أن الزائد لا شيء فيه حتى يبلغ المائة، فكل ذلك يحقق صحة هذا الوجه الذي اخترناه من الوجهين اللذين ذكرناهما، على أنَّه لا فائدة للقول بأن المأخوذ مأخوذ عن النصاب والوقص إلاَّ في مسألة واحدة، وتلك الفائدة منافية للسنة، وهي أنا إذا قلنا بذلك، وجب أن نقول في من ملك تسعاً من الإبل ثم هلك منها أربع بعد الحول وقبل الإمكان أن الواجب في الخمس الباقية خمسة أتساع شاة؛ لأن الشاة إذا كانت مأخوذوة عن التسع تلف أربع منها لم يلزمه إلاَّ خمسة أتساع شاة بقسط الخمس من الإبل ويسقط أربعة أتساع الشاة بقسط الأربع من الإبل التالفة، وهذا مخالف للسنة، ألا ترى ألى قوله: ((في خمس من الإبل شاة ))، فصح بهذا ـ أيضاً ـ أن الأولى في الأوقاص أن يقال: إنها عفو لا شيء فيها، وأن المأخوذ مأخوذ عن النصاب فقط.
على أن الوقص بعد النصاب مقيس على الوقص قبله؛ بعلة أنَّه وقص، فوجب أن لا يجب فيه شيء، على أن القول بخلاف ذلك يؤدي إلى خلاف موضع الزكاة؛ لأنَّه يؤدي إلى أن يكون تزايد المال يوجب تناقص الزكاة، ألا ترى أن الواجب في أربعين شاة شاة، فلو قلنا: إن الشاة مأخوذة عن الثمانين لكان ذلك يقتضي أن الواجب في الأربعين صار نصف شاة؛ لما تزايدت الغنم، وموضوع الزكاة يوجب زيادة المأخوذ بزيادة المال، فوضح ما قلناه.
مسألة
قال: ويعد المصدق ما سرح من الماشية في المرتع وتقرم من صغارها وكبارها إبلها وبقرها وغنمها.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).(28/27)
ولا خلاف في أن صغار الماشية تعد إذا كانت مع أمهاتها، والخلاف إذا تلفت الأمهات وبقيت الأولاد، فإن أبا حنيفة ومحمداً يذهبان إلى أنَّها لا تعد إذا تلفت الأمهات، وإطلاق يحيى عليه السلام ما أطلق يدل على أنَّه يوجب عدها على الحول كلها، وكذلك ما حكاه أبو العباس الحسني في (النصوص)، عن أصحاب القاسم عليه السلام أنهم رووا عنه في من له خمسة فصلان، أنَّه يؤخذ منها واحد تصريحاً فإيحاب عد صغار الماشية على الأحوال كلها.
والأصل في ذلك ما:
روي عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصدقة يعد صغيرها وكبيرها، فاقتضى ظاهر قوله أن يكون الصغير معدوداً على أي حال كان.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم يعد صغيرها وكبيرها، يوجب أن يعد الصغير مع الكبير؛ لأن الواو يوجب الجمع، وهذا إذا كانت هكذا، لم يتناول موضع الخلاف.
قيل له: الواو يوجب الجمع في الحكم، ولا يوجب الضم، ألا ترى أن قائلاً لو قال رأيت زيداً وعمراً يوجب أن يكون زيد وعمرو قد اجتمعا، في أن كل واحد منهما قد روي، ولم يجب أن يكون الرائي رآهما معاً في حالة واحدة، فكذلك الخبر إنما يوجب أن يكون كل واحد منهما ـ أعني الصغير والكبير ـ معدوداً، ولا يجب أن يكونا معدودين معاً.
ويدل على ذلك ما:
روي عن عمر أنَّه قال: عد السخلة عليهم، ولو جاء بها الراعي على كفه، ولم يشترط أن يكون معها أمهاتها، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، فجرى مجرى الإجماع منهم.
ويدل على ذلك ما:
روي عن أبي بكر، أنَّه قال: لو منعوني عناقاً مما أعطوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم، ولم ينكر أحد أن يكونوا قد أعطوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عناقاً، والعناق لا يجب إلاَّ في هذه المسألة.
فإن قيل: إن المراد به أن العناق لو كانت واجبة، ثم منعوها، لقاتلتهم.(28/28)
قيل له: ظاهر هذا الخبر لا يطابق هذا التأويل؛ لأنَّه يوجب أن يكون العناق كانت فيما أعطى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: فيجوز أن يكونوا أعطوا ذلك على التقويم.
قيل له: نحن قد دللنا على أن التقويم في الزكوات لا يجوز، فسقط هذا التأويل. على أنَّه لو كان أعطي على التقوي لم يكن ذلك واجباً يحل القتال عليه؛ أنَّه كان يجب برضاء صاحب المال، فلا وجه لهذا التأويل.
ويدل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أنها معدودة مع الأمهات مغيرة للفرض، ألا ترى أنها لو كانت مائة وعشرين شاة لكانت فيه الشاة، فإذا زادت سخلة واحدة، صار فيها شاتان، فوجب أن يكون ذلك حكمها إذا انفردت؛ قياساً على الكبار، والمعنى أن زيادتها مغيرة للفرض، فيجب أن يكون الفرض قائماً فيها إذا كانت نصاباً، وـ أيضاً ـ هي معدودة، فكذلك إذا انفردت، والمعنى أنَّه حال عليها حول الأمهات، ووجدنا الأصول تشهد لذلك؛ لأنا وجدنا الحيوان التي تجري فيها الزكاة إذا عدت مع جنس ثبت فرض الزكاة فيها إذا انفردت، وجب بوجوب العدد، كالمعز والضأن، وكذلك عندنا وعند مخالفينا في هذه المسألة حال الدراهم والدنانير، فإن بعضها لما عد مع بعض، ثبت الفرض في كل واحد منهما إذا انفرد.
وـ أيضاً ـ رأينا تغير حال المعدود بالزيادة والنقصان في السمن والهزال، والصحة والمرض، والقيمة لا تؤثر في إسقاط الفرض، فكذلك الصغار؛ لأن ما أوجب نقصانها هو السن دون العدد والجنس والسوم، وهذا يمكن أن يحرر حتى تكون علة برأسها.
فإن قيل: روي عن سويد بن غفلة، قال: أتانا مصدق رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فجلست إليه، فسمعته يقول: ((في عهدي أن لا آخذ من راضع لبن )).
قيل له: يحتمل أن يكون المراد بذلك إذا لم يحل عليه حول الأمهات على أن الخبر لا خلاف في أنَّه خاص؛ إذ لا خلاف في أنَّه يؤخذ منه إذا كان مع الأمهات.(28/29)