وروى ابن أبي شيبة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((ليس في أقل من أربعين شاة شيء))، والأخبار في هذه الجملة كثيرة، وهي مما لا خلاف فيه، إلاَّ ما رواه ابن أبي شيبة، عن عبدالله، أنَّه قال: فإذا زادت واحدة على ثلاثمائة ففيها أربع شياة، والإجماع المنعقد بعده يسقطه. وكذلك يسقطه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فإذا زادت فثلاث شياة إلى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة)). في رواية ابن أبي شيبة: ((ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة)).
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب كتاب الصدقة، فكان فيه في الغنم إذا زادت ففيها ثلاث شياة إلى ثلاثمائة، ثم ليس فيها شيء إلى أربعمائة، فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة شاة)).
مسألة
قال: ولا معتبر باجتماع المواشي وتفرقها في المراعي، وإنما المعتبر باجتماعها في الملك وتفرقها فيه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل فيه ما روى محمد بن منصور، عن ثمامة بن عبدالله بن أنس، وراه أبو داود في السنن، عن ثمامة أن أبا بكر كتب لأنس كتاباً حين بعثه مصدقاً، وفي رواية أبي داود، وعليه خاتم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين التي أمر اللّه بها رسوله ـ في حديث طويل في آخره ـ ((فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين شاة، فليس فيها شيء إلاَّ أن يشاء ربها)).
ولفظ رواية محمد بن منصور: ((فإذا ذكانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة واحدة، فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها )).
وفي هذا الحديث في رواية محمد بن منصور ((ومن لم يكن له إلاَّ أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلاَّ أن يشاء ربها)).(28/20)


وروى أبو داود في السنن، قال: حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن عاصم بن ضمرة والحارث، عن علي عليه السلام، قال زهير: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل، وفيه: ((فإن لم يكن لك إلاَّ تسع وثلاثون، فليس عليك فيها شيء)).
وروى نحوه ابن أبي شيبة، عن عاصم، عن علي عليه السلام.
وروى أبو داود في السنن بإسناده، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((وليس عليك شيء ـ يعني في الذهب ـ حتى يكون لك عشرون مثقالاً، فإذا كانت لك عشرون ديناراً، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار)).
وفي شرح أبي بكر الجصاص روي عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبدالله يقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس على امرء مسلم صدقة فيما دون خمسة ذود)).
فكل هذه الآثار تحقق ما نذهب إليه من أن الصدقة لا تلزم حتى يحصل النصاب في الملك.
فإن قيل: هذا وارد في المنفرد.
قيل له: إنَّه لم يستثن حالة الإجتماع عن حالة الإنفراد فهو عام فيهما جميعاً.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس فيما دون خمس ذود صدقة))، وجائز أن يطلق اللفظ في أحد الشريكين إذا كان بينهما خمسة ذود فقط، فيقال: ليس له إلاَّ دون خمسة ذود، فوجب أن تنتفي عنه الصدقة لقوله: ((ليس فيما دون خمسة ذود صدقة))، وعلى هذه الطريقة يستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس في أقل من أربعين شاة زكاة)).
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((في خمس من الإبل شاة))، وقال: ((في أربعين شاة شاة))، فأشار إلى العدد وهو ينتظم حالة الشركة والإنفراد.(28/21)


قيل له: لا دلالة لكم فيما ذكرتم؛ لأنَّه يقتضي وجوب الشاة في خمس ما من الإبل، وفي أربعين ما من الشاء، وذلك لا يقتضي العموم، فإذا أوجبنا الصدقة في خمس ما من الإبل، وفي أربعين شاة ما من الغنم، فقد خرجنا من عهدة الخبر، على أنا لو سلمنا لكم ما ادعيتموه لعارضه عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس يما دون خمسة ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون أربعين شاة شيء))، وانفرد لنا سائر ما اعتمدناه.
على أن ما اعتمدناه أولى؛ لأنَّه يتضمن ذكر الملك والعدد، وما اعتمدوه يتضمن ذكر العدد فقط، والخلاف إنما وقع في الملك، فكان ما اعتمدناه أولى؛ لأنَّه أخص بموضع الخلاف.
فإن قيل: فما تقولون فيما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يجمع بن مفترق، ولا يفرق بين مجتمع))؟
قيل له: لا يخلو من أن يكون أراد الاجتماع والافتراق في الملك، أو في الرعي أو فيهما، ولا خلاف أن الاجتماع والافتراق في الملك قد يراعى على بعض الوجوه، ولسنا نسلم أنهما يراعيان في الرعي على وجه من الوجوه، وتأويلهم قد انفردوا به على كل وجه.
ويحتمل أن يكون المراد به أن المواشي إذا كانت مفترقة في المراعي لم يجمعها المصدق ترفيهاً على نفسه؛ إذ فيه مشقة على أصحاب المواشي، وكذلك إذا كانت مجتمعة لم يفرقها بأن يستدعيها إلى مواضع، بل يقصدها في مواضعها.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية)).
ويدل على ما ذهبنا إليه؛ لأنَّه أكد دخول الخلطة، وعرف حكمها، ولو كان الحكم لا يتناول إلاَّ الملك فقط لم يكن لذكر الاختلاط معنى.
قيل له: المراد بذلك أن يكون بين الرجلين مائة وعشرون شاة لأحدهما أربعون وللآخر ثمانون، فأخذ المصدق شاتين منهما، فإن صاحب السهمين يرجع على صاحب السهم بثلث شاة أو نحوا من المسائل، فعلى هذا يكون قد بان الغرض من ذكر الاختلاط على أصولنا، ولم يجب أن يكون ذلك مؤديا إلى صحة ما يدعونه.(28/22)


فإن قيل: روي ((والخليطان ما اجتمعا في الرعي والفحولة والحوض)).
كان الجواب عن هذا نحو الجواب الأول؛ لأن المراد به يجوز أن يكون بيان الاختلاط الذي معه يأخذ غير متميز.
فإن قيل: قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً}، يوجب بعمومه أخذ الصدقة من أربعين شاة، وإن كانت بين اثنين.
قيل له: الآية مخصوصة بما قدمناه.
ويدل على ما نذهب إليه ـ أيضاً ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم))، فجعل الناس صنفين، أحدهما غني مأخوذ منه. والثاني فقير مدفوع إليه. فإذا ثبت ذلك وثبت أن من له شاة واحدة له أن يأخذ الصدقة، وإن كانت مخالطة لتسع وثلاثين لغيره، ثبت أنَّه فقير، وإذا ثبت أنَّه فقير، ثبت أن الصدقة لا تؤخذ منه.
يبين ذلك أنَّه لا خلاف في أنَّه فقير إذا كان منفرداً، وكذلك يجب أن يكون وإن صار خليطاً؛ لأن الخلطة لا تكسبه غنى.
ويدل على ذلك من طريق النظر أن المخالطة مقيس على المنفرد؛ بعلة أن نصاب ماله لم يكمل، فوجب أن لا تلزمه الصدقة، وـ أيضاً ـ لا خلاف أنَّه لو خالط الذمي والمكاتب، لم تلزمه الصدقة، فكذلك إذا خالط المسلم؛ والعلة أن نصاب ماله كمل بملك غيره.
ويمكن أن يقاس النصاب على الحول بمعنى أنَّه أحد شرطي الزكاة، فكما أن رجلاً لو ملك أربعين شاة ستة أشهر، ثم ملكه آخر، لم يلزم فيه الصدقة؛ للاشتراك في الحول، فكذلك يجب أن لا يلزم فيه الصدقة للاشتراك في الحول، فكذلك يجب أن لا يلزمه للاشتراك في النصاب قياساً عليه على أن أحد قولي الشافعي: إن الشركة فيما عدا المواشي لا تغير حكم الانفراد.(28/23)


فوجب أن تكون كذلك في المواشي، وقياساتنا يترجح على قياسهم المختلط على المنفرد؛ بعلة وجوب النصاب واجتماعه مع خفة المؤنة عند من له مدخل في الطهرة وتمام الملك بشهادة الأصول، وذلك أنا وجدنا وجوب الحج والكفارات والنفقات وسائر ما يجب على الإنسان، لا يجب للاشتراك والاختلاط، بل ما لا يلزم منه المنفرد، لا يلزم الشريك والمخالط.
فإن قيل: فأنتم تقولون: لو أن جماعة اجتمعوا على سرق ما قيمته عشرة دراهم، وجب أن يقطعوا، فكذلك إذا اشتركوا في المواشي يجب أن تؤخذ منهم الصدقة.
قيل له: نحن إنما أوجبنا القطع فيما سألت؛ لأن كل واحد منهم سارق لذلك المسروق، فكان كل واحد منهم سرق ما يساوي عشرة دراهم، وليس كذلك حال الخليطين؛ لأن كل واحد منهما لا يملك الجميع، وإنما يملك الشقص منه، فوجب أن يكون سبيلهما سبيل المنفردين.
فأما مالك فإنه يوافقنا على أنَّه لا اعتبار بالخلطة فيما دون النصاب فنقيس عليه ما زاد على النصاب بعلة تمايز الملكين، وحكي عنه الفرق بين الخلطة فيما دون النصاب، والخلطة فيما فوقها، وهو أنَّه قال: لو أني قلت بالخلطة فيما دون النصاب؛ لجعلت الرفق أبدى للمساكين، والبخس على أرباب الأموال، وإذا قلت بالخلطة فيما زاد على النصاب، كان الرفق للفقراء مرة ولأرباب الأموال أخرى؛ لأني إذا قلت بالخلطة في مائة وعشرين شاة تكون بين ثلاثة، لوجبت شاة واحدة، فكان فيه رفق لأرباب الأموال بشاتين، وإذا قلت بالخلطة في مأتي شاة وشاة بين نفسين أوجبت فيها ثلاث شياة، فيكون فيه رفق للمساكين شاة.(28/24)

113 / 138
ع
En
A+
A-