قيل له: هذا مخصوص بما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير))، وسائر ما يرد في هذا الباب.
فإن قيل: روي عن أبي بكر أنَّه قال بحضرة المهاجرين والأنصار: لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم. والعقال لا يؤخذ إلاَّ بالقيمة، ولم ينكر ذلك أحد من المهاجرين والأنصار.
قيل له: يجوز أن يكون المراد به صدقة عام فإنها تسمى عقالاً، وذلك معروف في اللغة.
ويدل على ذلك من طريق القياس أن الزكاة حق على المسلمين في المال لا يسقطه الإبراء والعفو، فيجب أن لا يجوز دخول القيم في أدائه، قياساً على ما يذبح من الأضاحي والهدايا والعتق، وليس يعترض هذه العلة قولنا في الخضراوات التي لا يمكن حبس أولها على آخرها، أنَّه يخرج قيمة العشر منها إذا لم يكن ما يحصل في كل وقت مما يبلغ قيمته مائتي درهم؛ لأن ذلك يكون قضاء ولا يكون أداء، ونحن إنما نمنع دخول القيم في الأداء، وكذلك شرطناه في علتنا.
فإن قيل: إن الضحايا والهدايا لم يجز فيها لا قيمة؛ لأن الحق تعلق بإراقة الدم، ولم يدخل في العتق؛ لأن العتق حق للمعتق.
قيل له: قد يجوز العدول في الهدايا وفي العتق إلى الصيام والإطعام على بعض الوجوه، فسقط ما تعلقوا به، على أنا لا نمتنع أن نقول: إن الزكاة تعلقت بالجنس فلا يجوز العدول عنه، على أن ما قالوه لو كان صحيحاً لجاز إخراج قيمة اللحم في الضحايا والهدايا بعد إراقة الدم، وهذا ما لا يقولون به.
على أنا لو سلمنا لهم ما ذكروه لم يمنع ذلك من صحة علتنا؛ إذ كان لا يمتنع أن يتعلق الحكم بعتلين، وـ أيضاً ـ لا خلاف أنَّه لا يجوز أن يجعل السكنى عوضاً مما يعطون من الصدقة، فوجب أن تكون القيمة كذلك قياساً ؛ والعلة أنَّه عدول عن المسنون في أدائها إلى العوض.
فإن قيل: الغرض بالصدقة هو المواساة، وذلك يتم بالقيمة.
قيل له: هذا فاسد بالأضاحي والهدايا.(28/15)


فإن قيل: قد أجزتم البعير عن شاة في خمس من الإبل، فيجب على هذا أن تجزوا سائر الأبدال.
قيل له: لأن ذلك عندنا أحد الواجبين على ما قدمنا القول فيه، وليس هو مأخوذاً على سبيل البدل...
مسألة
قال: ولا زكاة في البقر حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والأصل فيه ما رواه محمد بن منصور، عن محمد بن عبيد، عن معلى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، قال: قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، فقال: ((في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة حولي، وفي أربعين مسنة)).
وروي عن مسروق، قال: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم معاذاً إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة.
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا عبدالعزيز بن إسحاق البغدادي، قال: حدثنا علي بن محمد بن الحسن النخعي، قال: حدثنا سليمان بن إبراهيم المحاربي، عن نصر بن مزاحم، عن إبراهيم بن الزبرقان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((ليس فيما دون ثلاثين من البقر شيء، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة إلى أربعين، فإذا بلغت أربعين، ففيها مسنة إلى ستين، فإذا بلغت ستين ففيه اتبيعان إلى سبعين، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، فإذا كثرت البقر ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة)).
ولا خلاف فيما ذكرناه من صدقة البقر إلاَّ قول شاذ يحكي عن بعض المتقدمين أنه جعل في خمس من البقر شاة قياساً على الإبل، وهذا فاسد؛ لأنَّه قياس يبطله النص؛ ولأنه لا يجوز قياس الأصول بعضها على بعض على أن موضوع صدقة البقر بخلاف موضوع صدقة الإبل.(28/16)


على أن هذا القياس يبطله الإجماع المنعقد بعد قائل هذا القول، على أن هذا القياس لو جاز لأمكن أن يعارض بأن تقاس البقر على الغنم؛ بعلة أن زكاتها لا تخرج عن جنسها، فكان يكون ذلك أولى من قياسهم على الإبل.
مسألة
قال: وفي أربعين مسنة، وفي ستين تبيعان، وما زاد على هذا الحساب في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)، نص على أنَّه لا شيء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ ستين، وهو قول عامة الفقهاء، وإحدى الروايات عن أبي حنيفة، وعنه في ذلك ثلاث روايات: أحدها ما ذكرناه، والثانية: أن ما زاد على الأربعين فبحساب ذلك، والثالثة: أنَّه لا شيء بعد الأربعين حتى تبلغ خمسين، ثم فيها مسنة وربع مسنة.
والأصل في ذلك ما:
رواه ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، قال: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم معاذا،ً وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من ابقرتبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، فسألوه عن فضل ما بينهما، فأبى أن يأخذ حتى سأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((لا تأخذ شيئاً)).
وروى أبو بكر الجصاص بإسناده عن الحكم، عن معاذ، قا: ((بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على الصدقة إلى اليمن، وأمرني أن آخذ منكل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة))، وذكر في الحديث (( قال: فعرض علي أهل اليمن أن يعطوني مابين الخمسين والستين، ومابين الستين والسبعين فلم آخذ، وسألت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هي الأوقاص لا صدقة فيها)).
وروى محمد بن منصور بإسناده، عن معاذ نحوه.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن الشعبي، عن علي عليه السلام، أنه قال: ((في أربعين مسنة، وفي ثلاثين تبيع، وليس في النيف شيء))، وفي حديث زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام ((فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة إلى ستين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان إلى سبعين)).(28/17)


وفي ثبوت ذلك عن علي عليه السلام وجهان من الدلالة:
أحدهما: أنَّه إذا ثبت عنه وجب اتباعه عندنا.
والثاني: أنَّه لم يرو عن أحد من الصحابة خلافه، جرى ذلك مجرى الإجماع منهم.
فإن قيل: روي عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن معاذ، قال: لم يقل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في الأوقاص شيئاً، وهذا يعارض خبركم.
قيل له: يجمع بين الخبرين فيحمل قوله: لم يقل شيئاً، على معنى أنَّه لم يقل ابتداء، وقبل أن يبتدأ بالسؤال فيكون جمعاً بين الخبرين، ويحتمل أن يكون أراد بقوله: لم يقل شيئاً أنَّه لم يأمر بأخذ شيء منها.
على أن الخبر الذي استدللنا به أشهر وأظهر من خبرهم فصار أولى.
فإن قيل: عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} توجب أخذ الصدقة من النيف بعد الأربعين.
قيل له: الآية مخصوصة بالآثار التي ذكرناها على أنه ليس بالبعيد [يبعد] أن يقال أن المسنة ماخوذة عن الأربعين والنيف جميعاً.
فإن قيل: وجدنا أوقاص البقر تسعة تسعة، ولم نجدها تسعة عشر، وقولكم إنَّه لا يجب فيها شيء بعد الأربعين حتى تبلغ الستين ويجب أن يكون تسعة عشر وقصاً، وذلك خلاف أوقاص البقر، فوجب أن لا يصح.
قيل له: إنها تختلف في كل جنس من الماشية، ألا ترى أن أوقاص الإبل تختلف،وكذلك أوقاص الغنم تختلف، فوجب أن تكون أوقاص البقر ـ أيضاً ـ تختلف، قياساً على أوقاص الإبل والغنم، فإذا صح ذلك لم يمتنع ما ذكرناه، على أنا لم نجد الكسور في شيء من صدقات المواشي، فكان قولهم مخالفاً لأصل موضوع هذه الصدقات أجمع، فوجب أن يكون قولنا أولى وأشد موافقة للأصول، فوجب الانتهاء إليه.
مسألة
قال: وإذا بلغت البقر مبلغاً يصلح أن يؤخذ منه عدد من التبائع، وعدد من المسان أخذ من المسان.
نص في (الأحكام)، على أن من كان له من البقر مائة وعشرين أخذ منها ثلاث مسان.(28/18)


ووجه ذلك أن ثلاث مسان أنفع للفقراء من أربع تبائع، وأصل الزكاة مبني على نفع الفقراء، فكل ما كان أنفع لهم كان أولى. على أن أبا حنيفة قال في الخمسين من البقر: مسنة وربع مسنة، ولم يقل تبيع وثلثا تبيع، ولا مسنة وثلث تبيع، فصار على أصله اعتبار المسان أولى، فوجب أن نعتبرها ـ أيضاً ـ في المواضع التي ذكرناها.
مسألة
قال: ولا زكاة في الغنم حتى تبلغ أربعين شاة، فإذا بلغت أربعين شاة ففيها شاة، وفي إحدى وعشرين ومائة شاتان، وفي مأتي شاة وشاة، ثلاث شياة، فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة شاة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب) جميعاً.
والأصل فيه ما احتج به يحيى عليه السلام، وهو ما رواه محمد بن منصور، عن محمد بن عبيد، عن معلى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام، قال: قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال في الغنم: ((في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة فثنتان إلى مأتين، فإذا زادت واحدة فثلاث إلى ثلاثماة، فإن كثرت الشاء، ففي كل مائة شاة لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة، ولا يأخذ المصدق فحلاً ولا هرمة ولا ذات عوار)).
وروى زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ليس في أقل من أربعين شاة شيء، فإذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على المائتين واحدة ففيها ثلاث شياة، إلى ثلاث مائة، فليس في الزيادة شيء حتى تبلغ أربعمائة، فإذا بلغت أربعمائة، ففي كل مائة شاة.
وروى ابن أبي شيبة، عن عاصم، عن علي عليه السلام، قال: إن لم يكن لك إلاَّ تسع وثلاثون شاة، فليس فيها صدقة.(28/19)

112 / 138
ع
En
A+
A-