وروى محمد بن منصور، عن علي بن منذر، عن ابن فضيل، عن عبدالملك، عن عطاء، قال: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم علياً إلى قوم يصدقهم، فقال: إن عليكم في صدقاتكم كذا وكذا. فقالوا: لا نجعل لله اليوم، إلاَّ خير أموالنا. فقال علي عليه السلام: ما أنا بعاد عليكم السنة حتى أرجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فأستأذنه، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقص عليه القصة، فقال له: ((بين لهم ما عليهم في صدقاتهم، فما طابت به أنفسهم بعد، فخذه منهم))، فدلت السنة على أن صاحب المال إذا أعطى من جنس ما وجبت فيه الصدقة أفضل مما لزمه أخذ منه، فلذلك قلنا: من أن صاحب الخمس من الإبل إذا أعطى واحداً منها بدل الشاة أخذ منه، وـ أيضاً ـ قد ثبت في أصول الزكوات أن الزكاة تؤخذ من عين ما أخذ منه، فلما كان ذلك كذلك، ووجدنا القليل من الإبل يؤخذ منه الأغنام، ثم إذا كثرت تعود الصدقة على الإبل، علمنا أن الأغنام دخلت في صدقات الإبل على سبيل الرخصة في الابتداء، فلما ثبت ذلك، وثبت في الرخص أن العدول عنها إلى الأصل جائز، قلنا: إن العدول عن الشاة إلى البعير لصاحب الخمس من الإبل جائز.
وـ أيضاً ـ وجدنا من لزمته شاة فعدل عنها إلى البعير أجزأه كالمضحي، والمتمتع، فوجب أن يكون المتصدق كذلك.(28/10)


فأما صاحب الإبل العجاف والمعيبة، وصاحب الفصلان، فقلنا: إنَّه يؤخذ منه واحد من ماله ولا يكلف شاة؛ لأن الرديء والمعيب لو لم يؤخذا لواجبا أن يلزم صاحبه خيراً مما عنده؛ ولأن الأغنام على ما بينا دخلت تخفيفاً على أرباب الأموال، ورخصة لهم، فإذا كان إلزامها لهم يأتي على أكثر أموالهم، خرج عن أصل موضوعه، بل خرج عن أصل موضوع الزكاة؛ لأن أصول الزكوات موضوعة على إخراج اليسير من الكثير، فلذلك قلنا ذلك؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ: ((إياك وكرائم أموالهم))، فإذا طولب صاحب المعيبة من الذود بشاة صحيحة، كان قد طلب منه ما هو أكرم من ماله، والظاهر يمنع منه.
مسألة
وإذا لزم صاحب الإبل سن ولم يوجد في إبله، أخذ منه ما يوجد، فإن كان فوق ما لزمه رد المصدق عليه فضل ما بينه وبين ما لزمه، وإن كان دونه رد على المصدق فضل ما بينهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والوجه فيه أن ما هو الأصل من السن، وبه ورد الشرع إذا لم يوجد، وأخذ البدل كان مأخوذاً، على أنَّه يقوم مقامه، ولا يكون قائماً مقامه، إلاَّ إذا وازاه في القيمة، فوجب أن يعدل البدل بالقيمة على ما ذكرناه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر أن يتراد صاحب المال والمصدق لتفاوت ما بين السنين عشرين درهماً أو شاتين.
قيل له: لا نمتنع من ذلك إذا كان هو القيمة، والخبر عندنا منبه على وجوب أخذ العين على التقويم.
يبين ذلك أن الأصل في الأسنان الواجبة قد ثبت بإجماع الأمة، والأثر الوارد فيه قد تلقته الأمة بالقبول، والخبر الذي استدللتم به متى حمل على ما ذهبتم إليه يؤدي إلى رفع بعض ما ثبت بالإجماع؛ لأن المأخوذ من ذلك على غير تقويم، أما أن يكون زائداً على الأصل أو ناقصاً عنه، وإذا حمل الخبر على ما نذهب إليه من التقويم كان ملائماً للأصل فوجب أن يكون تأويلنا أولى.(28/11)


فإن قيل: ما أنكرتم من أن يكون تخصيص الخبر الوارد في أصول أسنان الإبل بخبرنا أولى من تخصيصكم خبرنا بخبركم الوارد في أصول الأسنان؛ لأنَّه أخص بموضع الخلاف، ألا ترى أنَّه قد ورد في الموضع الذي لا يوجد فيه الأسنان الواجبة؟
قيل له: تخصيصنا أولى؛ لأن الأصول تشهد له، وذلك أنا وجدنا الواجب على الإنسان إذا لم يوجد ووجد ما فوقه أو دونه رجع في التعديل إلى التقويم، وكان ذلك هو الأصل المعمول عليه، إلاَّ في مواضع مخصوصة، فكان تأويلنا أولى وأشبه بالأصول.
فأما إذا وجبت في الإبل ابنة مخاض، فلم توجد ووجد ابن لبون، فقد نص القاسم عليه السلام فيما رواه عنه يحيى عليه السلام في (الأحكام)، وفي رواية النيروسي: أنَّه يؤخذ من غير مراعاة التقويم.
والأصل فيه أن الخبر الوارد في صدقة الإبل صرح به ونص عليه، فصار ذلك أصلاً، ألا ترى أنَّه لم يذكر فيه الدراهم، وإنما أوجب ابن لبون بشرط أن لا توجد ابنة مخاض، فجرى مجرى الصيام للمظاهر إذا لم يستطع العتق.
مسألة
قال: ولا تؤخذ قيمة ما وجب من الزكاة، بل تؤخذ من عين ما وجبت فيه.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)، وهو قول القاسم عليه السلام.
والحجة عليه قول اللّه تعالى: {انْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ}، ومن توجب التبعيض، فاقتضى الظاهر إخراج بعض ما كسبنا، وبعض ما أخرجت الأرض.
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: ((في أربعين شاة شاة، في خمس من الإبل شاة، وفي خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض، وفي ثلاثين من البقر تبيع، وفيما سقت السماء العشر))، فاقتضت هذه الظواهر أن يكون المأخوذ من جملة المأخوذ منه، وكما أوجبت المقدار من المأخوذ منه والمأخوذ فكما لا يجوز العدول عن المأخوذ إلى البدل.(28/12)


ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض، فإن لم يكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر ))، فلم يجز العدول عن ابنة مخاض إلى ابن لبون إلاَّ بشرط عدم ابنة مخاض، كما لا يجوز العدول عن ابنة مخاض إلى ابن لبون إلاَّ بشرط عدم ابنة مخاض، كما لا يجوز العدول عن ابنة مخاض إلى ابن لبون إلاَّ بشرط عدم ابنة مخاض، كما لا يجوز العدول عن الماء إلى التراب إلاَّ بشرط عدمه، فدل ذلك على تعيين الوجوب في ابنة مخاض متى وجدت، كما وجب تعيين الوجوب على المتطهر في الماء متى وجده.
ويدل على ذلك ما رواه أبو داود في السنن بإسناده عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن، فقال: ((خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من من الإبل، والبقرة من البقر ))، وهذا صريح ما نذهب إليه.
فإن قيل: روي أن أُبيّ بن كعب حين بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدقاً أتى على رجل وجبت في إبله ابنة مخاض، فأعطى ناقة سمينة، قال: فأبيت أن آخذها، فخرج معي حتى قدمنا على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: ((ذاك الذي عليك، فإن تطوعت خيراً آجرك اللّه فيه وقبلناه))، فصار ذلك مأخوذاً على وجه البدل؛ إذ بعضه تطوع، وليس في فرض الإبل بعض ناقة.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن يقال إن جميعه فرض، وهو أعلى الفرضين، معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((فإن تطوعت خيراً آجرك الله))، إن تطوعت بالعدول عن أخف الفرضين إلى أثقلهما لا أن بعضه فرض وبعضه غير فرض، وفي هذا ما يسقط كونه مأخذواً على وجه البدل.(28/13)


والجواب الثاني: أن يقال: إنه إذا سمح بأن يعطي من جنس ما وجبت الزكاة في أفضل مما وجب عليه، صار بعض ذلك فرضه، ويكون مخيراً بين إخراجه، على أن يسمع بما زاد عليه، وبين إخراج الواجب عليه، فيكون الفرض على هذا متعلقاً بعينه، ولا يكون مأخوذاً على سبيل البدل. فعلى كلا الجوابين يسقط تعلقهم بما تعلقوا به.
فإن قيل: روي عن معاذ أنَّه قال لأهل اليمن: ائتوني بالبعض ثياباً أخذه منكم فهو أهون عليكم، وخير للمهاجرين والأنصار بالمدينة، فدل ذلك على جواز أخذ القيمة إذ ليس في شيء من الزكوات ثياب تؤخذ.
قيل له: قد قيل إن ذلك في الجزية دون الزكاة، واستدل على ذلك بأنه قال: خير للمهاجرين بالمدينة، والزكاة يكره إخراجها من بلد وفيه فقير، وقد قال له صلى الله عليه وآله وسلم : ((خذ من أغنيائهم ورد في فقرائهم))، على أن قوله: هو خير للمهاجرين بالمدينة يدل من وجه آخر على أن المراد به الجزية؛ لأن في المهاجرين من لا تحل له الصدقة لغناه، وفيهم من لا تحل له لنسبه، فلما أطلق معاذ القول في ذلك علم أنَّه أراد به ما يجوز صرفه إلى جميعهم، وهو الجزية، على أنَّه لو ثبت أن المراد به في الزكاة، لم يمتنع أن يكون ذلك رأياً رآه معاذ؛ إذ لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: عموم قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، توجب أخذ كل ما يسمى صدقة سواء كان من جنس ما وجبت في الزكاة أم لم يكن من جنسه.
قيل له: لا عموم في الآية للمأخوذ؛ لأنَّه إثبات في نكرة، وذلك يقتضي التخصيص، وإما العموم في المأخوذ منه، وهذا يمنعهم من التعلق به على الوجه الذي ذكروه، على أن ما ذكروه لو كان عموماً، لوجب أن يخص بالأدلة التي ذكرناها ونذكرها من بعد على طريق القياس.
فإن قيل: روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أغنوهم عن الطلب في مثل هذا اليوم))، والغنى يكون بالطعام، وقيمة الطعام.(28/14)

111 / 138
ع
En
A+
A-