وروى أبو بكر الجصاص في (شرح مختصر الطحاوي)، عن ابن قانع(1) يرفعه إلى سعيد بن المسيب، عن سلمان، قال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن كل طعام وشراب وقعت فيه دابة فماتت، ليس لها دم، فهو الحلال أكله، وشربه، ووضوءه )).
هذا نصٌ صريحٌ في موضع الخلاف.
ومما يدل على ذلك الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( إذا سقط الذباب في طعام أحدكم، فامقلوه فيه )).
وقد يكون مقله مؤدياً إلى موته، ولو كان موته يفسد ما يموت فيه، لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يؤدي إليه.
فإن قيل: هذا مثلٌ ما أمرنا بضرب النساء عند النشوز، وبالكي والقطع عند اعتراض الأدواء، وإن جاز أن يؤدي ذلك إلى التلف.
قيل له: إن الغرض بالضرب والكي والقطع لا يتم إلاَّ بها، فلم يكن بدٌّ من أن يؤمر بها، والغرض بمقله قد كان يتم بغير المقل، لأن الغرض به ما أخبرنا(2) به صلى الله عليه وآله وسلم، أن في أحد جناحيه داء، وفي الأخر دواء، فكان يمكن أن يقول: اغمسوا(3) بجناحيه فيما سقط فيه ليؤمن موته، فلما كان الغرض يتم به، ولم يقله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل قال: (( امقلوه )) مع جواز كونه مؤدياً إلى موته، علم أن موته فيه وأن لا يموت بمنزلة واحدة في أنَّه لا ينجس ما يموت فيه.
__________
(1) في (ب) و(ج): عن نافع. وفي نصب الراية 1/114: رواه الدارقطني في سننه من حديث بقية حدثني سعيد بن أبي سعيد الزبيدي عن بشر بن منصور عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال له النبي صلى الله عليه وسلم يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال اكله وشربه ووضوءه. انتهى. قال الدارقطني لم يروه غير بقية عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي وهو ضعيف. انتهى. ورواه بن عدي في الكامل واعله بسعيد هذا وقال هو شيخ مجهول وحديثه غير محفوظ. انتهى.
(2) في (أ): أخبر.
(3) في (أ): اغمسوه.(2/45)
ومما يدل على ذلك أنَّه قد ثبت بالاتفاق أن ذباب الباقلاء ودوده، إذا ماتا في الباقلاء لم ينجس بهما.
وكذلك دود الخل إذا مات في الخل لم ينجس به الخل، فوجب أن يكون سائر ما ذكرناه كذلك، قياساً على ما أُجمع عليه، والعلة أنَّه لا نفس له سائلة.
ويمكن أن يقاس على ما ذكرنا بتعذر الاحتراز منه غالباً.
ويمكن أيضاً أن يقاس على الجراد والحوت بالعلة الأولى.
فإن قاسوه على سائر الميتة، رجحنا علتنا بشهادة(1) الأصول، وذلك أنها تشهد بالمسامحة فيما يتعذر الاحتراز منه.
فإن استدلوا بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، فليس في ظاهرها لهم حجة، وذلك أن الكلام ليس في إباحة أكله.
فإن استدلوا بقول اللّه تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مَيْتاً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيْرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}، فأخبر الله تعالى أن الميتة رجسٌ.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت، وذلك أن الكناية ترجع إلى أقرب المذكور إليها دون ما عداه، فقوله(2) تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} راجع إلى الخنزير، على أن هذه الظواهر لو سُلمت، لكان ما ذكرناه من القياس، ورويناه من الأخبار، مُخصِصاً لها.
مسألة [ في جلود الميتة ]
وجلود الميتة نجسة وإن دبغت، ينجس بمسها الماء.
وقد نص على هذا الهادي عليه السلام في كتاب اللباس من (الأحكام)(3). وذكره أيضاً في كتاب الصلاة من (الأحكام)(4)، عند ذكره كراهية الصلاة في الخز، لأنه لا يدرى هل هو ذكي أم لا؟ وذكره أيضاً في (المنتخب)(5) وهو مذهب القاسم والناصر عليهما السلام، وهو المروي عن جعفر بن محمد.
__________
(1) في (أ): على شهادة.
(2) في (أ): وقوله.
(3) ذكره في الأحكام 2/413، وهو هنا بالمعنى.
(4) ذكره في الأحكام 1/131 بلفظ مقارب.
(5) ذكره في المنتخب ص122.(2/46)
والأظهر فيه أنَّه إجماع أهل البيت عليهم السلام، ومن مذهبنا أنَّهم إذا أجمعوا على شيء، وجب القول به والمصير إليه.
واستدل القاسم عليه السلام على ذلك بقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلِيْكُمْ الْمِيْتَةُ}، لم يرد أن الميتة نفسها محرمة على التحقيق، وإنما المحرم أفعالنا فيها، لأن الميتة فعلٌ من أفعال اللّه تعالى يستحيل أن يتناولها التحليل والتحريم، فإذا ثبت ذلك كان التحريم متناولاً جميع أفعالنا فيها، فثبت تحريم دبغه، وتحريم مسه، والانتفاع به، على كل وجه، ألا ترى أنه لا فعل يشار إليه من أفعالنا فيها، إلاَّ ويحسن الإستثناء منه، ومن شأن الإستثناء أن يُخْرِج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه، فإذا ثبت ذلك ثبت تنجيسه؛ إذ كل ما يحرم استعماله على كل وجهٍ فواجب تنجيسه.
ومما يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال حدثنا الناصر، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد الواسطي، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يُنتَفع من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ )). فلما كان من الغد خرجت ـ أنا ـ وهو، فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق، فقال: (( ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها )). فقلت: يا رسول الله: أين قولك أمس؟ فقال: (( يُنتَفع منها بالشيء )) كأنه يعني الشيء الجاف الذي لا يلصق.
وأخبرنا أبو العباس، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم بن شُنبذين، قال: حدثنا عمرو بن ثور، قال: حدثنا الفريابي، عن زمعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: (( نهى رسول اللّه أن ننتفع من الميتة بشيء )).(2/47)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال:حدثنا أبو بكره، قال حدثنا أبو عامر ووهب، قالا: حدثنا شعبه، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبدالله بن عكيم، قال: قرئ علينا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن بأرض جهينة، وأنا غلام شاب: (( أن لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عمر الدمشقي، قال: حدثنا محمد بن المبارك، قال: حدثنا صدقة بن خالد، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبداللّه بن عكيم، قال: حدثنا أشياخ جهينة، قالوا: أتانا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، أو قرئ علينا كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء )).
وروي بإسناد لا يحضرني، إلا أن شهرته تغني عن تتبع إسناده أن كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ورد قبل موته بشهرٍ، وروي بشهرين.
وقد أدعي الاضطراب في هذه الأحاديث؛ لأن عبد اللّه بن عكيم مرة يقول: قرئ علينا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومرة يقول: حدثني أشياخ جهينة، يقولون: ورد علينا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك. و[يحتمل أن] يكون قد قرئ عليه الكتاب أيضاً، فلا يمتنع اجتماع الأمرين جميعاً، وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع أن يروي أحدهما مرة والثاني الأخرى، وليس في هذا تدافع، ولا تَمانُع.
فإن قيل: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ))، ورد في شحوم الميتة، بدلالة:
ما روى أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: بينا أنا عند رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاءه أناس فقالوا: يا رسول الله، إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة ميتة سمينة، فأردنا أن ندهن بها سفينتنا، وإنما هي عود على الماء. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لاتنتفعوا من الميتة بشيء )).(2/48)
قيل له: قد رَوَيْنَا هذا الخبر على ما قدمنا ذكره مطلقاً من غير ذكر السبب.
وأيضاً فإنه لا يجب قصره على السبب، وإن لم يُروَ غيره، بل يجب حمله على مقتضى اللفظ، فلا معنى للإشتغال بما ذكروه.
فإن قيل: اسم الإهاب لا يتناوله بعد الدبغ، كان ذلك ساقطاً؛ لأن الإهاب اسم للجلد ينطلق عليه قبل الدبغ وبعده.
فإن ادعوا تخصيص هذه الأحاديث بما روى عطاء، عن ابن عباس، أن شاة لميمونة ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( هلا أنتفعتم بإهابها )). فقالوا: إنها ميتة.
ففي بعض الأخبار: (( دباغ الأديم طهوره )). وفي بعضها: (( يطهرها الماء والقرض )). وفي بعضها (( إنما حرم أكلها )).
وبما روي عن ابن عباس، أنَّه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (( أيما مسك دبغ، فقد طهر ))، وروي: (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )).
وروى الأسود، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( دباغ الميتة طهورها )).
وبما روي عن سلمة بن المحبق: (( أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم دعا بقربة من عند امرأة فيها ماء، فقالت: إنها ميتة، فقال: (( دَبغتِها ))؟ قالت: نعم. قال: (( دباغها ذكاتها )).
وروي نحو ذلك عن سودة بنة زمعة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: اتخذت قربة من ميتة، فبقيت عندنا إلى أن تخرقت.
قيل لهم: في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( هلا انتفعتم بإهابها ))، معناه هلا ذكيتموها؟ وانتفعتم بإهابها، ألا ترى أنَّه قال بلفظ الماضي، ولو أراد في(1) الحال لقال هلا تنتفعون بإهابها، فلو جعل ذلك دلالة على أن الانتفاع لا يجوز لكان قريباً، إذ التنبيه بلفظ الماضي على هذا الحد لا يقع إلاَّ لأمرٍ فائت، ألا ترى أنَّه لا يقال: هلا صليت إلاَّ مع فوات وقتها، فأما مع بقائه، فيقال: هلا تصلي؟ وهذا ظاهر.
__________
(1) سقطت (في) من (ج).(2/49)