وذلك منصوص عليه في (المنتخب).
والأصل فيه أنَّه إذا كان ردياً في الجنس، فإن الزكاة تجب فيه إذا بلغ النصاب، كما يجب في رديء السائمة، ورديء ما أخرجت الأرض، ولعموم قوله سبحانه: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الرقة ربع العشر، وفي مأتي درهم خمسة دراهم))، ولم يستثن في شيء من ذلك الرديء من الجيد، فوجب أن لا يكون فصل بين الرديء والجيد في التزكية.
فأما المغشوش وإياه عني بالستوق، فإن الزكاة لا تجب فيه حتى يكون نقرته مائتي درهم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس فيما دون خمس أواق صدقة)). وقوله: ((لا صدقة في الرقة حتى تبلغ مائتي درهم))، والغش لا يكون من الرقة، فوجب أن يكون الاعتبار بالنقرة على ما بيناه، على أنَّه لا خلاف في أن الغش إذا زاد على النقرة، كان الاعتبار بالنقرة في التزكية، فكذلك إن نقص، والمعنى أنَّه جنس، خلاف الذهب والفضة، فوجب أن لا يعتد به في تزكية الذهب والفضة.
مسألة
ومن كان عنده ذهب قاصر عن النصاب، ومثله من الفضة، متى ضم أحدهما إلى صاحبه تم النصاب، وجب أن يضم ضماً يحصل معه النصاب، ويخرج منه الزكاة، وكذلك القول في الحلي الذي يكون بعضه ذهباً وبعضه فضة.
القول بوجوب الضم منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب). وتفصيل الضم وتفسيره منصوص عليه في (الأحكام).
والقول بالضم هو قول زيد بن علي، والقاسم بن إبراهيم، والناصر عليهم السلام.(27/38)


والحجة فيه قول اللّه تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةِ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِيْ سَبِيْلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلَيْمٍ..} الآية، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل مال أديت زكاته فليس بكنز))، فلما توعد اللّه سبحانه وتعالى الذي يكنزون الذهب والفضة، وبين صلى الله عليه وآله وسلم أن التزكية هي التي تخرج المال من أن يكون كنزاً، دل مجموع ذلك أن تزكيتهما في حال الاجتماع واجب؛ إذ الواو في قوله: ((الذهب والفضة))، للجمع.
ويدل عليه عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله: {أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون مائتي درهم صدقة))
قيل له: المراد به إذا لم يكن معها غيرها، ألا ترى أن في حديث أنس في كتاب أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((في الرقة ربع العشر، فإذا لم يكون للرجل إلاَّ تسعون ومائة، فليس فيها صدقة))، فنبه على أن الفرض به في حال الانفراد.
يبين ذلك أنَّه لا خلاف في أنَّه لو كان مع الرجل ما للتجارة، وجب عليه أن يضمه إلى الذهب أو الفضة، ويكمل به النصاب، وـ أيضاً ـ لا خلاف في أن أموال التجارة يضم بعضها إلى بعض، وإن كانت أجناسها مختلفة، فنقيس عليها الذهب والفضة بعلتين: أحدهما أن المأخوذ منهما في جميع الأحوال ربع العشر، فكل مال يكون المأخوذ منه في جميع الأحوال ربع العشر يجب أن يضم منها الأجناس المختلفة، بعضها إلى بعض، وشرطنا في العلة جميع الأحوال؛ لأن الغنم يؤخذ منها في الأول ربع العشر، إلا أن ذلك يتغير إذا كثرت الغنم.
والعلة الثانية: أنَّه مال يبتغي به النماء على سبيل الاستعاضة، فوجب أن يكون مثل أموال التجارة في الضم.
فإن قيل: أموال التجارة لم تجب فيها الزكاة، وإنما وجبت في قيمتها.(27/39)


قيل له: هذا فاسد، وذلك أن القيمة غير حاصلة، وإنما وجبت الزكاة في رقبتها، فالتقويم جعل لمعرفة النصاب ـ أيضاً ـ ما ذهبنا إليه، قياس على ضم الدراهم المختلفة الأوصاف بعضها إلى بعض، إذ لا خلاف فيه؛ والعلة فيه أنَّه قيم المتلفات، وأثمان الأشياء غالباً، فوجب أن يضم ما اختلف منه بعضه إلى بعض.
فأما قياسهم على حال الانفراد بعلة القصور عن النصاب فهو منتقض بضم مال التجارة إليه؛ إذ لا خلاف أن من كان معه مائة درهم ومال التجارة يساوي مائة درهم، أنَّه يضم إليها.
فإن قاسوا الذهب والفضة على السوائم وما أخرجت الأرض في أنَّه لا يضم بعضها إلى بعض كان قياسنا على أموال التجارة أولى؛ لأن الذهب والفضة يضمان إليها، فكان حكمها أقرب إلى حكمها وأشبه به.
وقلنا: يضم ضماً به يحصل معه النصاب؛ لأن الغرض بالضم إيجاب الزكاة فلا وجه لضم لا يوجبها؛ ولأن فيه احتياطاً للمساكين؛ ولأن أموال التجارة لا خلاف أنها تقوم بالذهب إذا كان التقويم به يوجب الزكاة دون التقويم بالفضة، وأنها تقوم بالفضة إذا كان التقويم بها يوجب الزكاة دون التقويم بالذهب، فكذلك ما قلناه، وقلنا: إن الحلي فيه كالمضروب؛ لأن أحداً لم يفصل بينهما؛ ولأن جميع ما استدللنا به من الظواهر والقياس لا يفصل في ذلك بين الحلي وغير الحلي من الذهب والفضة.
فصل
قال يحيى بن الحسين عليه السلام: يضم بالتقويم، وهو قول القاسم عليه السلام، والناصر للحق رضي اللّه عنه، وقال زيد بن علي صلوات اللّه عليه: يضم بالأجزاء، ووجه قولنا: إن أموال التجارة لما لم يراع نصابها في ذاتها، ووجب فيها الضم بالقيمة، فكذلك الذهب والفضة، يجب أن يكون ضمها بالقيمة.
فإن قيل: أموال التجارة وجب فيها ذلك؛ لأنها لا نصاب لها.(27/40)


قيل له: قد يكون من أموال التجارة ماله نصاب، ولكن إذا وجب فيها الضم، وجب الرجوع إلى التقويم، على أن شيئاً من الضم للتزكية في الأصول لا يكون بالأجزاء، فإذاً ما ذهبوا إليه لا أصل له يقاس عليه.
مسألة
قال: وإذا بقي عند رجل ذهب أو فضة، أوهما جميعاً سنين لم يزكها فيها لزمه إخراج الزكاة للسنة الأولى منها كاملاً، ثم للثانية مما بقي بعد إخراج الزكاة للسنة الأولى، ثم كذلك إلى أن ينحط عن النصاب، وكذلك القول في زكاة الماشية إذا تأخرت.
فهذا منصوص عليه في (الأحكام).
وأبو حنيفة يوافقنا في أن الزكاة تمنع الزكاة، وإن كان يخالفنا في علة المسألة؛ لأنَّه يذهب إلى أن الدين يمنع الزكاة، ويجري الزكاة مجرى الدين، وعندنا أن الدين لا يمنع الزكاة على ما قدمنا من القول فيه، وإنما نقول: إن الزكاة تمنع الزكاة؛ لأن قدر الزكاة عندنا يصير مستحقاً للمساكين، فيخرج عن أن يكون ملكاً لصاحب المال، فلذلك قلنا: إنَّه لا زكاة فيه.
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، ومن إذا لم تكن للصلة أو لابتداء الغاية، فهي للتبعيض، فأوجبت الآية أخذ بعض أموالهم، وذلك يقتضي أن يكون ذلك القدر مستحقاً عليهم، فوجب أن يكون خارجاً من ملكهم.
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون من هاهنا للصلة أو لابتداء الغاية.
قيل له: لو كان من للصلة، لوجب أن يكون جميع المال مأخوذاً، وهذا فاسد، ولو كان الابتداء الغاية، لم يكن له معنى مفهوم، فبان أنها للتبعيض على ما قلناه.
ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيْنَ} فجعلها لهم، فثبت أنهم قد استحقوها، وـ أيضاً ـ لا خلاف أن من جعل ثلث ماله أو ربعه أو جزءاً منه للفقراء، يصير ذلك مستحقاً لهم، فكذلك قدر الزكاة، والمعنى أنَّه جزء معلوم من مال معلوم جعل للفقراء، فوجب أن يستحقوه.(27/41)


فإن قيل: فقولكم هذا يؤدي إلى أن يزول ملك المالك عن المال بمضي الزمان؛ لأن قدر الزكاة عندكم يصير مستحقاً للفقراء بحول الحول، وهذا ما لا يوجد في الأصول.
قيل له: قد وجد ذلك في الأصول، ألا ترى أن رجلاً لو قال لعبده: إذا انقضت السنة فأنت حر، لكان ملكه يزول عنه بانقضاء السنة، على أن ذلك لو لم ينجده في الأصول، لكان لا يمتنع القول القول به إذا قام الدليل عليه.
فإن قيل: لو كان ذلك مستحقاً للفقراء، لكان لهم أن يأخذوه بغير إذن صاحب المال.
قيل له: لا يجب ذلك، ألا ترى أن الفقراء يستحقون ما يوصى لهم به من الثلث أو دونه، ومع ذلك فليس لهم أن يأخذوه من المال إلاَّ بإعطاء الوصي، أو بحكم الحاكم؟ فكذلك الزكاة، على أن أحد الشريكين لا يقاسم صاحبه، إلاَّ برضاه أبو بحكم الحاكم، وهذا لا يمنع أن يكون نصيب كل واحد منهما في المشترك فيه ملكاً له.
فإن قيل: لو كان ذلك مستحقاً لهم، لوجب أن يكون المستحق معيناً، وأن يكون الذي يستحقه معيناً.
قيل له: هذا فاسد بالوصية، وبالرجل يجعل جزءاً معلوماً من ماله للفقراء.
فإن قيل: لو كان ذلك مستحقاً، لم يجب أن يكون تعينه موقوفاً على اختيار رب المال.
قيل له: هذا ـ أيضاً ـ فاسد بمن يجعل جزءاً معلوماً من ماله للفقراء؛ لأنَّه يصير مستحقاً لهم، ويكون تعيينه موقوفاً على اختيار رب المال.
وما قدمناه من الأدلة في هذه المسالة، يوجب أن لا يكون فرق في هذا الباب بين الذهب والفضة، وبين المواشي إذا تأخرت زكاتها، فلذلك قلنا: إن سبيل المواشي في هذا الباب سبيل الذهب والفضة.
مسألة
ولا بأس بأخذ الذهب عن الفضة، والفضة عن الذهب في الزكاة، ولا يجوز ذلك في غيرهما من الأموال، وهذا منصوص عليه في (الأحكام).(27/42)

108 / 138
ع
En
A+
A-