قيل له: لسنا نقول: إنَّه كراء محض بل نقول: إنه جار مجرى الكراء فلا يلزم فيه ما ذكرت، على أنَّه لو وجب أن لا يجتمع الخراج والعشر لكان الخراج بأن يسقط للعشر أولى من أن يسقط العشر للخراج؛ لأن العشر ثابت بالكتاب والسنة المجمع عليها، وليس كذلك الخراج في القوة، فإذا كان الخراج لا يجب أن يسقط العشر مع أن طريق إثباته دون طريق إثبات العشر في القوة، فكذلك العشر لا يجب أن يسقط للخراج، وإذا كان هذا هكذا وجب أن يجتمعا.
مسألة
قال: وأموال العبد زكاتها على مولاه يخرجها مما في يده أو من غير ذلك، وكذلك مال المدبر وأم الولد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
والوجه فيه ما ثبت من أن المملوك لا يملك شيئاً، وأن ماله يكون ملكاً لسيده، فوجب أن يكون سبيل ما في يده سبيل ما في يد الوكيل في أن زكاته تجب على مالكه، إن شاء أخرجها منه، أو من غيره، وحكم المدبر وأم الولد حكم العبد لبقاء الملك عليهما(1)؛ ولأنهما لا يملكان.
مسألة
قال: فأما المكاتب فماله موقوف إلى أن يعتق أو يرجع في الرق، فإن عتق لزمته الزكاة لما مضى من السنين، وإن عاد في الرق لزمت مولاه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ..} الآية. وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ}، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الرقة ربع العشر، وفي أربعين شاة شاة، وفي خمس من الإبل شاة))، فكل ذلك يوجب في الأموال سواء كانت للمكاتب أو لغيره، وـ أيضاً ـ فهو مقيس على سائر الأموال؛ بعلة أنَّه ملك يتملكه أهل الإسلام، فوجب أن تلزم الزكاة فيه كما تلزم في سائر الأموال، فإذا ثبت الوجوب، فلا أحد قال في التزكية، إلاَّ على ما قلناه.
__________
(1) ـ في نسخة: فيهما.(27/23)
وـ أيضاً ـ وجدنا هذا المال لم يزل عنه ملك المولى، ووجدنا المكاتب ـ أيضاً ـ في حكم المالك له، وإن كان بعد لم يتم ملكه، فوجب أن يوقف زكاته إلى أن يستقر الملك لأحدهما فيزكيه كالمال المشتبه حاله بين اثنين من الوديعة أو غيرها.
وقلنا: إن المولى لم يزل عنه ملكه؛ لأنَّه لم يزل ملكه عن المكاتب نفسه، فيجب أن لا يكون قد زال عما في يده؛ لأن حكمه في هذا الباب حكم من هو في يده، ومنع المولى من التصرف فيه لا يقدح فيما ذكرنا إذ المنع من التصرف لا يزيل الملك، ألا ترى أن الصبي ممنوع من التصرف، وكذلك المجنون والمحجور عليه وأملاكهم غير زائلة، فكذلك مولى المكاتب سبيله سبيل ما ذكرنا من الصبي والمجنون والمحجور عليه.
وقلنا: إن المكاتب في حكم المالك، وإن كان تصرفه تصرف الوكيل على بعض الوجوه؛ لأنَّه لا يتصرف فيه عن غيره، بل يتصرف عن نفسه.
فإن قيل: فلِمَ لم توجبوا الزكاة فيه عند حلول الحول، ولِمَ انتظرتم استقرار الملك لأحدهما باستقرار العتق للمكاتب أو الرق؟
قيل له: لأنا لو أوجبناها لم تخل من قسمين:
أحدهما: أن نوجبها على كل واحد منهما، وهذا فاسد؛ لأنَّه يؤدي إلى أن يكون المأخوذ من الرقة نصف العشر، ومن أربعين شاة شاتين، ومن خمس وعشرين من الإبل ابنتي مخاض، وذلك فاسد. أو نوجبها على واحد منهما، وهذا ـ أيضاً ـ فاسد؛ لأنا لو أوجبناها على أحدهما كنا قد جوزنا أن ينقطع ملكه، ويستقر ملك غيره من المولى أو المكاتب، فنكون قد أوجبنا عليه زكاة ما لا يملكه، فلم يبق إلاَّ أن يوقف على ما ذكرناه.
وبمثل هذه الطريقة، يبطل سؤال من يقول: هلا أوجبتم أن يؤدي الزكاة على قدر ما أدى من مال الكتابة، كما اعتبرتم ذلك في سائر أحكامه، ألا ترى أنَّه يؤدي إلى جواز أن يكون المؤدي هو الذي لا يستقر ملكه.
مسألة(27/24)
قال: ولا زكاة في الدور والخدم والكسوة والخيل، والإبل العوامل، ما لم تكن للتجارة، أو ما يجري مجراها، ولا يضم شيء من الأصناف إلى غيره لتجب فيه الزكاة خلا الذهب والفضة.
وجميع ما ذكرنا منصوص عليه في (الأحكام).
أما الدور والخدم والكسوة والخيل مالم يكن للنتاج أو التجارة فلا خلاف في أنها لا زكاة فيها.
واحتج يحيى بن الحسين عليه السلام بما رواه زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عفا عنها.
واشترطنا في الخيل والإبل أن لا تكون جارية مجرى ما يكون للتجارة؛ لأنا نوجب فيها الزكاة إذا كانت لكراء، وما كان منها للكراء يجري مجرى ما يكون للتجارة؛ لأن النماء يبتغي فيهما جميعاً.
وأما الإبل العوامل والضم إليه حيث يمنع منه وحيث نوجبه، فسنبين الكلام فيه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.
مسألة
قال: وكل مال تلف قبل وجوب العشر فيه فلا زكاة على صاحبه، ووقت وجوبها هو أن يصير فيه حبه، ويؤمن فساده، ويبن صلاحه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، ونص فيه في زكاة الذهب على أن من تلف ماله بعد وجوب الزكاة، ضمن الزكاة.
وكان أبو العباس الحسني يقول: إن الزكاة تجب وتتحول إلى الذمة بنفس الوجوب والضياع، ولم يكن يشترط فيها التفريط، والأصح عندي أن يكون التفريط مشترطاً فيها؛ لأن الوجوب لا يستقر على التحقيق إلاَّ مع إمكان الأداء، وإذا لم تؤد مع الإمكان مفرطاً يبين ذلك أن الواجب هو الذي إذا لم يفعله الفاعل استحق الذم عليه، وذلك لا يكون إلاَّ مع الإمكان.
فإن قيل: فقد أطلق يحيى عليه السلام إن وقت وجوبها هو أن يصير فيها حبة، وتلك الحال حال لا يمكن معها إخراج الصدقة منها؛ لأن إمكان إخراجها يكون بعد أن يقطف ويجذ ويحصد.(27/25)
قيل له: المراد بذلك حصول سبب الوجوب، وحصول وجوب الخرص، ألا ترى أنَّه يقول: فإذا كان كذلك وجب خرصها فإذا حصد أو جذ أو قطف، أخذ منه عشره أو نصف عشرة، فدل بذلك على أن المراد ما ذكرنا دون وجوب الإخراج.
وقد قال في آخر كتاب الزكاة من (الأحكام): والزكاة شيء من اللّه جعلها لكل فقير معسر عند كل ذي جدة مؤسر، فنبه على أن حكم الوديعة، والوديعة لا يضمنها المستودع إذا تلفت بغير تعد منه أو تفريط في الرد، وقال في زكاة الفطر: ولا يبطئ بها بعد الإمكان، فإن لم يمكنه فهو في فسحة من أمرها إلى أن يتهيأ ذلك، فنبه على أن التضمين يكون بعد الإمكان؛ لأنه إذا كان في فسحة منها قبل الإمكان، فكذلك يكون في فسحة من سائر الزكوات قبل الإمكان، وإذا كان في فسحة منها قبل الإمكان، وإذا كان في فسحة منها لم يضمنها.
وليس له أن يقول: إن زكاة الفطر وإن كان في فسحة منها فإنه يضمنها، وإن تلف ماله بعد الوجوب وقبل الإمكان، فكذلك سائر الزكوات، وذلك أن زكاة الفطر تجب في الذمة، فالواجب يكون حاصلاً تلف المال أو لم يتلف، ويكون سبيلها سبيل الدين، والزكاة تجب في المال معينا لتنصيصه على أن صاحب الزرع عليه أن يخرج عشر زرعه منه لا من غيره، وتنصيصه على أن الزكاة تمنع الزكاة، وأن الدين لا يمنعه، فيجب أن يكون سبيلها سبيل الوديعة، وكل ذلك يصحح ما اخترناه من أن الضمان لا يكون إلاَّ بعد التفريط.(27/26)
ووجه ما كان يذهب إليه أبو العباس الحسني رحمه اللّه أن ترد الزكاة إلى سائر ما يجب من مهر أو دية أو زكاة فطر، فإنه إذا وجب شيء من ذلك، ثم تلف المال قبل إمكان الأداء، أو بعده يجعله مضموناً، وكذلك الزكاة ويمكنه أن يقول: إن قول يحيى عليه السلام في من سرق ماله، ثم ظفر به بعد سنين أن عليه إخراج زكاته لما مضى من السنين، يدل على أنَّه لا يراعى التفريط؛ لأنه من المعلوم أن صاحبه لم يتمكن من أداء زكاته مع كونه مسروق، وجوابنا لمن قال ذلك أن ذلك ليس بتضمين، ألا ترى أنه لا يضمنه وإنما يوجب عليه إخراج زكاته إذا وجده؛ لأنَّه إذا وجده وجده وقدر الزكاة عنه مستحق فعليه أن يخرجه إلى الفقراء والمساكين من غير أن يضمنه لو لم يجد المال، فأما التضمين فلا يثبت إلاَّ مع التفريط على ما بيناه.
وكذلك نقول في المهر والدية إنهما يجبان في الذمة ابتداء، فلا يجب أن يكون حكم الزكاة حكمه ما إذا تلفت ويجب أن يكون حكم الزكاة حكم الوديعة.
فأما أبو حنيفة فإنه كان يذهب إلى أنَّه لا يضمن وإن فرط.
والأصل فيه ما بينا من أن حكمه حكم المودع في أنه إذا فرط ضمن، وتحرير العلة فيه أنَّه حصل عاصياً لله بمنع ذي حق حقه، فوجب أن يضمنه قياساً على من غصب أو امتنع من رد الوديعة.
فإن قيل: الوديعة لمعين فلم يمتنع أن يضمن له، والزكاة لا لمعين فلا يجب أن يضمنها.
قيل له: كونها لمعين أو لا لمعين لا يؤثر في إيحاب الضمان كما لا يؤثر في إيجاب الأصل، على أن رجلاً لو غصب مالاً من الفقراء، ضمنه لهم، فصح أن الضمان لا يتعين بأن يكون لمعين أو لأقوام غير معينين.
فإن قيل: المودع لا يضمن إلاَّ بالتفريط في رد الوديعة بعد مطالبة ربها بها، وأنتم ما تشترطون المطالبة في تضمين الزكاة.(27/27)