فإن قيل: قول اللّه تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}[النجم:39] وقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كَلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} يقتضي أن الولي لا يؤدي عن اليتيم شيئاً، فإذا ثبت بالآية أن الولي لا يؤدي عن اليتيم، وثبت أن اليتيم لا يجب عليه، ثبت سقوطها عن /11/ ماله.
قيل له: ظاهر الآية يقتضي أن الإنسان لا يستحق إلاَّ ثواب ما سعى واكتسب، أو عقابه، وليس فيه أن أحداً لا يؤدي حقاً من مال غيره، ونحن نقول: إن ثواب السعي في إخراج الزكاة يكون للولي، وعقاب الترك لإخراجها يكون عليه، فقد قلنا بموجب الظاهر، وسقط ما ظنوا أنَّه يوجب أن الولي لا يؤدي عن اليتيم، وما أجمع عليه من أن الولي يخرج من مال اليتيم أروش الجنايات، والنفقات، وزكاة العشور، فصح ما ذكرناه في هذا.
فإن قيل: فإن أبا بكر قال بحضرة الصحابة: ((لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)) ولم يُنكر عليه فدل على أن الصبي لا زكاة عليه؛ لأنه لا صلاة عليه.
قيل له: كلام أبي بكر لا يصح أن يكون حجة لشيء من المذهبين في هذا الباب](1)، (وموجب الزكاة على اليتيم دون الصلاة مفرق بينهما.
قيل له: نحن لا نفرق بين الصلاة والزكاة في هذا الباب)(2)؛ لأن واحدة منهما لا توجب على اليتيم، وإنما يوجب على الولي إخراج الزكاة من مال اليتيم، وعلى أنَّه كان من المعلوم أن مراده بالفرق بين الصلاة والزكاة كان أداء الصلاة، والامتناع من أداء الزكاة دون سائر الفروق، ألا ترى أن الفرق بينهما يكثر؛ لأن الزكاة لا تسقط عن الحائض، وتسقط الصلاة، والسفر يرد الصلاة إلى الشطر، ولا يرد الزكاة، والزكاة لا تلزم الفقير، وتلزمه الصلاة.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في نسخة.
(2) . ما بين القوسين ساقط من (أ) و (ب).(27/18)
ومما يبين أن الفرق الذي نذهب إليه بين الصلاة والزكاة لم يكن مراد أبي بكر حين قال ما قال مع مقارة الصحابة له عليه، أن الجميع قد أجمعوا أن من فرق بينهما هذا الفرق لا يحل قتاله، وهذا يحسم شغبهم في هذا الباب بواحده.
فإن قيل: قال اللّه تعالى: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} والصبي لا(1) يدخل في وجوب الصلاة فوجب ألا يدخل في وجوب الزكاة.
قيل له: قد بينا أن الخطاب عندنا هو لولي اليتيم دون اليتيم، على أن الصلاة لم يصح في أدائها النيابة، والتوكيل، فلم يصح أن يدخل في وجوبها من لم يكن مخاطباً، والزكاة يصح فيها النيابة، والتوكيل، فلم يمتنع أن يلزم في مال من لم يصح أن يكون مخاطباً.
ومما يدل على ذلك من طريق النظر أنَّه لا خلاف في وجوب العشر، وزكاة الفطر في ماله، فكذلك (سائر)(2) الزكاة، والمعنى أنَّه حق يصرف في الأصناف الثمانية، فوجب أن يستوي فيه الصغير والكبير.
وـ أيضاً ـ يمكن أن يقاس اليتيم على البالغ؛ بعلة وجوب زكاة الفطر، والعشر في ماله، فكل من لزمت زكاة الفطر والعشر في ماله، لزمه سائر الزكوات.
وـ أيضاً ـ نقيس مال اليتيم على مال البالغ، والمعنى أنَّه مال من يُحكم له بالإسلام، فيجب أن تلزم فيه الزكاة.
وقياسنا أولى من قياسهم الصبي على الكافر؛ بعلة أن ليس له عقد الإيمان، وذلك أن الصبي مسلم حكماً، فقياس المسلم على المسلم أولى من قياس المسلم على الكافر.
على أن الأصول تشهد لقياسنا؛ لأنَّها تقتضي أن يحكم لليتيم بأحكام المسلمين فيما له، وعليه.
وكذلك وجدنا سائر الحقوق الواجبة في الأموال تؤخذ من أموال اليتيم، فكان هذا ـ أيضاً ـ أصلاً يشهد لقياسنا، ويوجب ترجيحه.
مسألة
قال: وما يأخذ السلطان الجائر لا يسقط الزكاة الواجبة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
__________
(1) . في (أ) و (ب): والصبي لم.
(2) . سقط من (أ) و (ب).(27/19)
إذا أخذ السلطان الجائر زكاة رجل نظر فيه فإن أعطاه طوعاً ليضعها في أهلها، وعلم أنَّه يضعها فيهم أجزت؛ لأن المتغلب إذ ذاك يجري مجرى الوكيل، ولا خلاف أن وكيل رب المال إذا فرق الزكاة أجزت عنه.
وقد نص على ذلك في زكاة الفطر حيث يقول: فإن لم يجد المخرج مستحقاً لها في بلده، وعرف في غير بلده، وجه بها إليه، ومن يوجهه رب المال يكون وكيلاً له، ولم يشترط فيه أن يكون براً ولا فاجراً فلذلك قلنا: إن المتغلب الجائر إذا أخذ الزكاة بإذن ربها ووضعها موضعها أجزت عنه، فأما إذا أخذها بإذن أهلها ولها ولم يضعها موضعها أجزت عنه، فأما إذا أخذها بإذن أهلها ولم يضعها في مستحقها، أو أخذها كرههاً من أصحابها لم يجز عن رب المال؛ لأن الإجزاء يتعلق حينئذ بالولاية، والله تعالى لم يجعل للظالم هذه الولاية بدلالة قوله تعالى لإبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِيْ قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِ الظَّالِمِيْنَ}.
فإن قيل: قد قال اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيَهُمْ بِهَا} وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: ((خذ من أغنيائهم، ورد في فقرائهم))، فأمر بالأخذ من أرباب الأموال.
قيل له: نحن نوجب أخذها من أربابها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام ومن يقوم مقامهما، وليس في شيء من ذلك دليل على أن المتغلب الجائر له أخذها منهم.
على أنَّه لا خلاف أن اللص أو قاطع الطريق أو المتغلب الحربي إذا أخذ الزكاة لم يجز، فكذلك إذا أخذها المتغلب الظالم، والمعنى أن الآخذ لها فاسق.
مسألة
والخراج لا يسقط العشر بل يجمع بينهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، وهو قول القاسم عليه السلام فيما روى عنه النيروسي.(27/20)
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه من إيجاب العشر في أرض الخراج قول اللّه تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَومَ حَصَادِهُ} وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فيما سقت السماء العشر))، ولم يستثن في شيء من ذلك أرض الخراج، فاقتضت هذه العمومات إيجاب العشر في أرض الخراج وجوبه في غيرها.
فإن قيل: إن عمر حين وضع الخراج على أرض السواد بمحضر من الصحابة لم يطالبهم بالعشر.
قيل له: يجوز أن يكون ترك المطالبة بالعشر؛ لأن أهلها لم يكونوا أسلموا، أو لأن من أسلم منهم كان مؤتمناً، فكان يخرجه من غير مطالبة.
ويحتمل ـ أيضاً ـ أن تكون المطالبة لم تنقل لظهورها؛ لأن سبيلها كانت سبيل غيرها من الأراضي، وإنما نقل من حالها ما تميز عن أحوال سائر الأرضين.
فإن قيل: لا يجوز أن يجتمع الخراج والعشر؛ لأن سببيهما متنافيان؛ لأن سبب الخراج الكفر، وسبب العشر الإسلام.
قيل له: حكم الخراج باق بالإجماع مع انتفاء السبب الموجب له من الكفر، وحصول السبب الموجب للعشر هو الإسلام، وإذا جاز أن يبقى الخراج مع انتفاء السبب الموجب له [فبالأولى أن يلزم العشر مع وجود السبب الموجب له](1)لم يمتنع أن يجامع العشر.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ العشر من أرض العرب ولم يوجب فيها خراجاً، فصار ذلك أصلاً في انتفاء اجتماعهما.
قيل له: هذا يوجب أن أرض العشر لا خراج عليها، ولا يوجب أن أرض الخراج لا عشر في غلتها، فإذاً دليلكم لم يتناول موضع الخلاف، وإنما يتناول موضع الوفاق.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسقط نصف العشر لمؤنة الدوالي، فيجب أن يسقط النصف الباقي؛ لمؤنة الخراج.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في (ج) وهامش (ب).(27/21)
قيل له: ليس كل مؤنة تلزم الأرض تسقط العشر أو شيئاً منه فلا يجب ما قالوه على أن ذلك لو كان على ما قالوا، لوجب أن يكون الخراج يسقط نصف العشر، كما أسقطت مؤنة الدوالي نصف العشر، فكان يجب أن يؤخذ من أرض الخراج نصف العشر، وهذا فاسد.
ومما يدل على ذلك من طريق النظر أن أرض الخراج مقيسة على أرض العشر؛ والعلة أنها ملك المسلم، فوجب أن يكون العشر و غلتها واجباً كوجوبه في غلة أرض العشر.
ويبين صحة هذه العلة أن أرض العشر إذا ملكها الذمي لم يلزمه العشر في غلتها، فبان أن تعلق حكم العشر هو بتملك المسلم لها، ويمكن أن تقاس غلة أرض الخراج على غلة أرض العشر في إيجاب العشر، وكذلك يمكن أن يقاس مالك أرض الخراج على مالك أرض العشر في إيجاب العشر فيما تخرجه أرضه.
فإن قيل: السائمة إذا كانت للتجارة لم يجتمع فيها زكاة السوم وزكاة التجارة، فكذلك أرض الخراج يجب أن لا يجتمع فيها الخراج والعشر قياساً عليها، والمعنى أنهما جميعاً حقان لله تعالى في مال واحد في سنة واحدة.
قيل له: هما حقان مختلفان، فلا يمتنع أن يجتمعا قياساً على زكاة الفطر، وزكاة المال، وجزاء الصيد والكفارات.
يبين ما ذكرنا من أن العشر والخراج حقان مختلفان أن الخراج جار مجرى كراء الأرض، ومصرفه مصرف الفيء، والعشر يجب في الغلة، ومصرفه مصرف الزكوات، والأصول تشهد بصحة ما ذكرناه؛ لأن الحقوق المختلفة في الأصول لا يمتنع أن تلزم في المال الواحد.
فإن قيل: لو كان الخراج كراء الأرض لكان يجب أن يعقده من في يده الأرض على نفسه.(27/22)