فإن قيل: فأنتم تقولون: إن صاحبه لو وجده قبل القسمة، كان أولى به، وإن وجده بعد القسمة، كان أولى(1) بالقيمة، وهذا يمنع زوال ملكه.
قيل له: لا يمتنع أن يكون الإنسان يصير أولى بالشيء من غيره لسبب من الأسباب، وإن لم يكن ملكاً له، وإنما يتملكه من بعده، ألا ترى أن الشفيع يكون أولى من المشتري بالمبيع، وإن لم يكن ملكاً له؟ فعلى هذا لا يمتنع أن يكون صاحب الشيء الذي عرفه أولى بتملكه من غيره من المسلمين، ألا ترى أنا بعد القسمة لا نجعل له أن يتملكه إلاَّ بالقيمة؟.
وروى أبو جعفر ـ بأسانيد تركتها نحو هذا القول فيما أحرزه المشركون ـ عن أبي عبيدة، وزيد بن ثابت، ولم يروَ خلافه عن أحد منهم، فجرى مجرى الإجماع.
فإن قيل: روي عن أبي بكر أنَّه قال: يرد على صاحبه، قسم، أو لم يقسم.
قيل له: لم يرو أنَّه قال: يرد بغير قيمة، ونحن لا ننكر أنَّه يرد عليه في الحالين، لكنا نقول: إنَّه يرد عليه بالقيمة بعد القسمة.
ومن طريق النظر أنَّه لا خلاف في أن بعضهم إذا أحرز أموال البعض بالغلبة ملكه، فكذلك إذا أحرزوا أموالنا قياساً عليه؛ والعلة أنَّه إحراز على سبيل الغلبة وقع من المشركين لما يصح أن يتملكوا، (فوجب أن يملكوا)(2) ، وهو ـ أيضاً ـ قياس على ما نملكه عليهم بالإحراز والغلبة، والعلة وقوع الغلبة لما يصح أن يمتلك مع اختلاف الدارين، والدينين، وانتفاء الذمة والأمان.
مسألة [في زكاة المال الذي يصرف في تجارة ثم يزيد السعر أو ينقص]
قال: ومن صرف مالاً له في تجارة تلزمه في مثله الزكاة، ثم زاد سعره، أو نقص قبل الحول، لزمته الزكاة على ما يكون من قيمته عند انتهاء الحول، زادت، أو نقصت.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(3) ، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً بين من أوجب الزكاة في مال التجارة.
__________
(1) . في (أ): أولى به بالقيمة.
(2) . سقط من (أ) و (ب).
(3) . انظر الأحكام 1/204، وانظر المنتخب 72.(27/8)


وذكر أبو بكر الجصاص في شرحه(1) (مختصر الطحاوي) أنَّه لا خلاف فيه بين الفقهاء، وإنما الخلاف في العين من الوَرْق والذهب إذا كان نصاباً (عند)(2) أول الحول وآخره؛ لأنَّه قال: ((ولو كان معه عشرة دنانير ثم ملك قبل الحول عشرة أخرى، أخرج الزكاة عنهما(3)))، فنبه على أنَّه لا معتبر بوسط السنة، زاد المال فيه، أو نقص، كما صرح به في مال التجارة.
ووجهه أنَّه مقيس على مال التجارة؛ بعلة بقاء بعض النصاب الذي تعلق الحكم به في أول السنة وكماله في آخرها، وليس يجب أن يكون نقصان(4) كهلاك الأصل، كما لا يجب ذلك في أموال التجارة، ومن الناس من ذهب إلى أن الاعتبار بكونه نصاباً في (آخر)(5) الحول، وأنه لا اعتبار بأوله، وذلك غير صحيح عندنا؛ لأن السخال لما وجب ضمها إلى الأمهات، وجب مراعاة النصاب في أول الحول وآخره، وكذلك العرض؛ لأنَّه فرع لزكاة الناض كما أن السخال فرع الأمهات؛ ولأن أول الحول مقيس على آخره، والعلة أنَّه أحد طرفي الحول المراعى لإخراج الزكاة، فوجب أن نعتبر به.
مسألة [في الدين، هل يسقط الزكاة؟]
ومن كان عليه دين يستغرق(6) ماله، أو يوفى عليه، لم يسقط لذلك زكاة ماله.
وقد نص (يحيى بن الحسين عليه السلام)(7) في (الأحكام) و(المنتخب)(8) جميعاً على أن الدين لا يسقط /7/ الزكاة.
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيَهُمْ بِهَا}[التوبة:103] وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}[البقرة: 267].
__________
(1) . في (أ) و (ب): الشرح.
(2) . سقط من (أ) و (ب).
(3) . في (أ) و (ب): عنها.
(4) ـ في (أ): وليس يجب أن يكون النصاب كفصان كالأصل. و (ب): كملاً كالأصل وهامشها النصاب بدل النقصان.
(5) . سقط من (أ).
(6) . في (أ) مستغرقة.
(7) . زيادة في (ج).
(8) . انظر الأحكام 1/203، وانظر المنتخب 74.(27/9)


وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في الرِّقَة ربع العشر))، إلى غير ذلك من الظواهر، ولم يستثن في شيء منها من عليه الدين فاقتضى عمومها وجوب الزكاة سواء كان على صاحب المال دين، أم(1) لم يكن.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ(2)} [إلى قوله: {وَالْغَارِمِيْنَ}](3)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى(4) اليمن: ((خذ من أغنيائهم، ورد في فقرائهم))، فدل ذلك على أن الغارم فقير؛ لأنَّه ممن يُرد فيهم، ومن يرد فيهم يجب أن يكونوا فقراء(5)، والفقير لا تلزمه الزكاة لقوله: ((خذ من أغنيائهم(6))).
قيل له: لسنا نسلم أن الغارم يعطى من الصدقة ما كان في ملكه ما يلزمه الزكاة فيه لأنه لا يكون فقيراً (حتى يؤديه في دينه، ثم بعد ذلك يأخذ الزكاة؛ لأن الغارم يأخذ بالفقر كالمجاهد، ومن كان في ملكه ما يلزمه الزكاة فيه لا يكون فقيراً)(7).
فإن قيل: عموم قوله: {وَالْغَارِمِيْنَ} يقتضي أن كل غارم يأخذها.
قيل له: إنما قام الدليل على أ ن الزكاة تؤخذ بالفقر، وأن الأصناف أصناف الفقراء يقتضي تخصيصه، وسنبين الكلام من بعد فيه إذا انتهينا إلى موضعه.
__________
(1) . في (أ): أو.
(2) . في (أ) و (ب): {.. للفقراء والمساكين}.
(3) . سقط من (أ) و (ب).
(4) . في (أ) و (ب): بعثه إليهم.
(5) . في (أ) و (ب): يكون فقيراً.
(6) . في (أ) أموالهم.
(7) . في (أ): ما بين القوسين في (ج) بدل ما أثبته.(27/10)


ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف بيننا وبين من خالفنا في هذه المسألة أن من كان عليه خمسة أوسق ديناً، (وكان له خمسة أوسق)(1) أنه يلزمه إخراج العشر، فكذلك ما اختلفنا فيه؛ بعلة أنَّه حق يلزمه في الذمة، وكل(2) حق يلزمه في الذمة لا يمنع وجوب الزكاة، وهو ـ أيضاً ـ مقيس على ملك من لا دين عليه؛ بعلة حصول النصاب في ملكه مع حول الحول عليه، وهذه العلة لا ينقضها قولنا: إن الزكاة تمنع الزكاة؛ لأن الزكاة تستحق عندنا في العين، فمن عليه الزكاة في ماله بعينه، انتقص من ملكه بمقداره، وليس كذلك الدين؛ لأنَّه لا يستحق معيناً.
فإن قاسوه على الإرث بأنه مال يؤخذ بغير عوض، فيجب أن يمنع الدين منه، كانت علتهم منتقضة بالعشر، على أنها لو سَلِمت، لكان قياسنا أولى؛ لأنَّه قياس الزكاة على الزكاة؛ ولأن الظواهر تشهد له؛ ولأنه يوجب، وقياسهم يسقط، والموجب في الزكاة عندنا أولى.
فإن قيل: لا خلاف بيننا أن صاحب الدين إذا استوفاه زكاه لما مضى من السنين، فدل ذلك على أن المال لصاحب الدين حكماً، وإذا ثبت ذلك، لم يجب أن تؤخذ زكاته ممن في يده المال.
قيل له: هذا الذي قلتم لا معنى له؛ لأنَّه لا إشكال في أنَّه ملك لمن هو في يده، وإن كان عليه الدين لجواز تصرفه فيه كما يتصرف الملاك، فأولى أن تلزمه الزكاة، وهذه النكتة مما اعتمدها يحيى بن الحسين عليه السلام في الدلالة على المسألة، وبيَّن بها أن المال له، وأن الزكاة يجب أن تلزمه إن كان المال له.
فإن قيل: فإنه يؤدي إلى أن تؤخذ من المال الواحد زكاتان.
__________
(1) . ما بين القوسين سقط من (أ) و (ب).
(2) . في (أ) و (ب): فكل.(27/11)


قيل له: وما في ذلك ما ينكر إذا دل الشرع عليه، على أنَّه لا خلاف بيننا وبينهم أن الفائدة تزكى مع الأصل إذا حصلت قبل الحول، ولو بساعة، فلو أن رجلاً يملك النصاب، ثم ملك قبل الحول بيوم مالاً من جنسه، لوجب عليه أن يزكيه مع الأصل، ثم لو ملكه(1) آخر قبل حول ماله بساعة، لزمه ـ أيضاً ـ أن يزكيه، فيكون المال الواحد قد لزم فيه زكاتان، ولم يمتنع ذلك، فلا معنى لتعلقهم بما تعلقوا به.
فإن قيل: لو أخذ صاحب /8/ الدين مقدار دينه من ماله بغير إذنه، لكان له ذلك، وصار أولى به، فدل ذلك على أنَّه مستحق لعينه، فوجب أن تكون الزكاة لازمة له دون من هو في يده.
قيل له: لسنا نسلم أن لصاحب الدين أخذه بغير إذنه إلاَّ بحكم الحاكم(2)، وقد نص (3) يحيى بن الحسين على أن صاحب الدين لو سرق من مال غريمه بمقدار حقه لزمه القطع، على أنا لو سلمنا ذلك لم يدل على أن المال لصاحب الدين؛ لأنَّه وإن ملكه بالأخذ، وكان له أن يأخذ، فليس بمالك له قبل الأخذ.
فإن قيل: في رواية زيد بن علي، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: ((إذا كان لك دين، وعليك دين، فاحتسب بذلك، وزكِّ ما فضل عن الدين الذي عليك)).
قيل له: لا يمتنع أن يكون المراد به إخراج الزكاة من الفاضل فيكون الفرض تقديم الدين، ويكون المخرج ربع عشر الجميع، إذ ليس فيه أن يخرج ربع عشر الفاضل، وهذا هو موضع الخلاف، والخبر لم ينطق به، وعلى هذا يتأول ما روي أن عثمان خطب بحضرة الصحابة، فقال: ((من كان عليه دين، فليؤده، ثم ليزكِّ بقية ماله)) إذ جائز أن يكون الفرض تقديم الدين، وأن يخرج الواجب من البقية، وهو ربع عشر الجميع.
مسألة [في زكاة الدين متى تجب؟]
قال: وصاحب الدين إذا استوفاه، زكاه لما مضى من السنين، إلاَّ أن تنقصه الزكاة عن(4) النصاب.
__________
(1) . في (ب): ملك.
(2) ـ في (أ) و (ب): إلا بقضاء القاضي
(3) . انظر المنتخب 410.
(4) . في (أ) و (ب): بين.(27/12)

102 / 138
ع
En
A+
A-