باب المظالم
الدراهم والدنانير التي يضربها السلطان إن كان بأمر شرعي جاز لأنه من المصالح العامة ويكون الربح لبيت المال، وإن كان بغير أمر شرعي ولا أصل صحيح فهو من جملة الأحداث وليس على المتصرف فيها بطريق محل إثم لأنه مما استمر عليه المسلمون ولم يعلم من أحد منهم الامتناع منه.
وفي رجل يقبض المظالم التي تستغرق ماله ثم يوصي بوصايا، إن الورثة إن افتكوا المال بقيمته وأنفذوا فعل الأب نفذ وإن لم يفكوه وجب صرف المال إلى بيت المال.
وإذا علم الورثة أن على أبيهم مظالم تستغرق ماله لم يحل لهم تناول المال حتى يصلحوا المظالم إن كانت معينة وإن كانت غير معينة فهي لبيت المال، ولا يحل للوارث أخذه وإن لم يطالب فيه.
وفي قوم نزلوا أرضاً مملوكة أو غير مملوكة فتناثر من حبوبهم شيء فنبت وأدرك أن الزرع لبيت المال لأن البذر لم يتعين مالكه.
ومن أخذ شيئاً من مال ظالم مظالمه مستغرقة لماله ثم مات الظالم، إن ما أخذه ينتقل حكماً إلى بيت المال ولا حق للآدميين فيه، وإن كان على الظالم ديونهم لأن دينهم إنما يلزم في ماله وحين مات لا مال له على الحقيقة لأن المخلف مال الله سبحانه ومال الله لا يقضي عنه وإنما يجب صرف ما عليه من [الدين إلى] بيت المال.
(ح) (قال الفقيه الإمام محمد بن أسعد أبقاه الله وأيده): المراد بذلك إذا كان أرباب الديون لا يعلم دين كل واحد منهم أو لا يعلم أعدادهم فيصير ماله للمظالم؛ لأن الديون لو كانت معلومة وأربابها معلومين كانت أولى من المظالم.(1/286)
ويمكن حمل المسألة على ظاهرها وتكون المظالم مقدمة على الديون كما في مسألة الأعشار والزكوات [إلا أن بينهما فرقاً وهو أن الأعشار والزكوات] أنها تتعلق بعين [المال في حياته، والمظالم تتعلق بذمته لا بعين المال، والله أعلم بالصواب].
(ص) ومن مات وعليه حق لزم ورثته تسليمه من ماله ولا يسقط بموته لأن الوجوب ثبت فلا يسقطه إلا الأداء وما يجري مجراه.
وفي المعاملة مع الظالمين بدراهمهم ودنانيرهم وهي من مظالمهم وغيرها مما يجلب إليهم من ظاهر الحل إن الحكم للأعم الأكثر، فإن كان الأكثر الحرام فالمقبوض بيت مال بلا إشكال، وإن كان الأكثر الحلال فظاهره الحلال، فإن استويا في الظن رجح الحظر على الإباحة وكان المقبوض لبيت المال.
وقال - عليه السلام -: وخادم السلطان ما لم يتعين الحرام في يده جاز بيعه وشراؤه وجميع تصرفه، وإن علم أن جميع ما في يده حرامٌ حمل على ذلك وحرم التصرف إلا بإذنٍ شرعي.
وثمن الحرام حرامٌ، لأنه ملك من وجه محظور، ومن قال له من لا يوثق به إن بهيمتك حرامٌ لم يلزمه قوله ما لم يعلم.
ومن اشترى حمل ثياب وشرط صاحبه أنه بصفة كذا فوجده المشتري جنساً أعلى منه وقد غاب البائع إلى بلد لا يمكنه الوصول إليه، إن القدر الذي بين الرفيع والدني من التفاوت يكون مصرفه بيت المال؛ لأن المعلوم أنه لا يغش بالجيد وإنما كان ذلك غلطاً وسهواً.(1/287)
ومن كان الظاهر منه الظلم ثم تاب عند موته؛ إن مظالمه إن كانت مستغرقة لماله لم يجز لأحد التصرف في ماله بالبيع والشراء لأنه مستحق الصرف إلا أن يفكه الوارث بقيمته، والتوبة لا تؤثِّر في زوال حُكمه لأن (من شرطها) أن يخرج ماله في المظالم وإصلاحها.
ومن عرف منه الحنث في أيمان تستغرق ماله لم يحل تناول شيء منها لأن ماله كان مستهلكاً فلا يجوز التصرف فيه إلا بإذن شرعي من الإمام أو من ينوب من قبله إلا أن يخرج الوارث عوضه فإن لم يعلم ذلك وكان الخلاف منكرا لذلك ولم يتيقن حنثه فالقول قوله.
ومن كانت عليه أروش جنايات ودماء والتبس أهلها صرف ذلك إلى بيت المال، وما ظهر أنه صدقة ولم يعلم على من هو صدقة فإنه لبيت المال.
ومن كان مشهوراً بالربا [أو كان والده] يخدم الظلمة ويتصرف لهم في الأموال المحظورة إن ماله يصرف إلى بيت المال، فإن قبضه فقير في غير وقت الإمام صح بنية التسليم، والإمام في زمانه أولى به.
ومن قتل قتيلاً ولم يعرف ورثته ولا يمكن من ذلك كانت ديته لبيت المال، ومن استغرق مالاً كثيراً من المظالم ثم قتل فإن الإمام أو نائبه يقبض ديته أو بعضها ويصرف ذلك إلى بيت المال عما عليه.(1/288)
باب ذكر الديون
ومن كان عليه (دين الآدميين فأوصى بما هذه حاله) وعليه كفارة صيام وجبت المخاصة بين الدين وكفارة الصيام لتعلقهما جميعاً في حال الحياة بالمال عن المعذور بالكبر فإنه يكفر للصوم وكذلك كفارة الأيمان متعلقة بالمال فيخاصص الدين والحج من الثلث.
ومن كان عليه ديون تستغرق ماله لأقوام فقضى ما يملكه بعضهم دون بعض، إنه إن كان قبل الحكم بقضاء الديون والمخاصة صح ما فعله ولم يكن للباقين الاعتراض، وإن كان بعد الحكم لم يصح قضاؤه وكان الغرماء فيه سواء.
ومن أوصى بدين عليه لزمه في واجب أو مندوب أو مباح ولا مال له فالله سبحانه يقضي عنه؛ لأنه أحوجه إلى ذلك.
وأما دين التبذير فدين في ذمته، وكذلك المظالم فإنها تكون من أعواضه لأنه تعالى لو حمل عنه ذلك لكان مغرياً له بالقبح.
ومن مات في الغيبة البعيدة وله امرأة في بعض النواحي وله مال في جهتها وامرأة أخرى وابنة وأخ وأخت في الجهة التي مات فيها ولا يعلم هل له مال آخر وهل عليه دين أم لا، إن الواجب قضاء المرأة وتسليم ما يوجد له في ناحيتها ولا يجب عليها (تضمن لما يجيء) من مطالبة الزوجة (الثانية أو ظهور) دين لأنه ربما يتعذر عليها التضمين، فلو أوجبناه لفوتنا عليها حقها، لأن الظاهر من التجار وأصحاب التصرفات والمكاسب الغنا في كل بلد يكون فيها، ولهذا يحبس بالدين في أي بلد كان لأن ظاهره الغنى.
ومن كان عليه دينٌ ولم يجد من يشتري أراضيه إلا بنقصان من القيمةِ ورأى الحاكم تسليمه إلى الخصم بالقيمة لزم ذلك لحفظ الأموال، فأما إطلاق أصحابنا فلا بد من النقد.(1/289)
وفي دين ليتيم ولا ولي له وجب على من عليه الدين التحري وتسليمه إلى من يغلب في ظنه إيصاله إليه من أمٍّ أو سواها، وإن كان في الزمان إمام أو من يقوم مقامه فعل ذلك بأمره.
(ح) ومثله ذكر صاحب (الوافي) والسيد أبو طالب لمذهب يحيى - عليه السلام -، وأبو الفضل الناصر، وصاحب (المرشد) لمذهب الناصر في الزكاة أنه يجوز تسليمها إلى أم اليتيم إذا كانت أمينة ولم يكن هناك وليٌّ ولا وصي ولا حاكمٌ خلافاً للمؤيد بالله.
(ص) ومن أوصى بديون تقضى عنه وهي أكثر من ماله وبعض أهلها غائب والحاضر منهم محتاج، إن الواجب يقسط المال على أهل الديون ويعطي الحاضر مقدار حصته ويحفظ للغائب نصيبه.
وإذا مات الزوج وعليه مهر امرأته، فإن كان هناك إمامٌ أو حاكمٌ أو من ينصف مظلوماً من ظالم كان على من وجد من هؤلاء أن يقضيها مهرها من ماله، وإن فقدوا ولم يتمكن من حقها إلا بأن تأخذه من غير دفع أحد جاز لها أخذه وتحتاط على نفسها، ومن لزمه حق الله تعالى أو حق العباد لم تجب عليه التأدية إلا باليسار.
(ح) أي: إذا كان فاضلاً عن قوته وقوت عياله وهذا القدر مستثنى.
(ص) وحق المخلوقين إن كانوا معينين فهو أولى بالتقديم من حق الله سبحانه لأنه يجوز صرف حق الله سبحانه إلى غير معين من المستحقين والآدمي معين فالمعين أولى، فإن استويا في الوجوب ولزمه ذلك كان له أن يصرفه فيمن لا تجب عليه نفقته من أقاربه بل ربما يكون ذلك أولى.(1/290)