الكتاب : الأذان بحي على خير العمل |
الطبعة الأولى
1416هـ ـ 1996م
حقوق الطبع محفوظة للناشر
تم الصف والتحقيق والإخراج بمركز النور للدراسات والبحوث والتحقيق
اليمن ـ صعدة ص. ب (90238)
بسم اللّه الرحمن الرحيم
... مقدمة
الحمدلله رب العالمين، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.وبعد ..
فإن كثيرا من الخلافات بين المسلمين أفرزتها ردود الأفعال، وظروف الدول، والتعمق في بحث الجزئيات والتفاصيل، إضافة إلى التعصب الأعمى، وسؤ الفهم، والسهو والغلط والركود الفكري ، ونحو ذلك من العوامل المؤثرة على سلامة الفطرة وصحة التفكير.
وورثت الأجيال تلك الخلافات، وضاعفها الزمن، وتجاذبها المختلفون حتى بلغت إلى ما هي عليه اليوم، حيث يسعى كل من المختلفين إلى تشويه وطمس معالم مخالفه، واتهامه بالابتداع، ومخالفة السنة النبوية، واتباع غير سبيل المؤمنين.
وكثيرا مايستغل بعض الكُتّاب المشبوهين بحث أي مسألة فكرية أو تأريخية أو فقهية لتأجيج نار الفرقة وتوسيع دائرة الخلاف؛ فيجعل ما يكتب مجرد إساءة وتجريح للآخرين، ومجازفات سخيفة، وتحكمات باردة، واستهانة بمقدسات الآخرين الفكرية والتاريخية، وهذا بدوره يثير النفوس ويبعث الأحقاد، مما يؤدي إلى مهاترات ونزاعات مؤسفة، الخوض فيها إهدار للجهد ومضيعة للوقت.
وذلك يدعونا إلى مراجعة كثير من المسائل الموروثة عن البيئة المذهبية، الناتجة عن تأثير المحيط الثقافي، ويُلْزِما أن ننفذ بأبصارنا إلى ما وراء جدران المذهبية، ونعود إلى منابع الشريعة الصافية، وندرس ما التبس علينا على ضوئها درا سة موضوعية، بعيدة عن الجمود القاتل، والحَرْفِيَّة الخانقة، كخطوة أولى على طريق الوحدة الثقافية لأبناء الإسلام.(1/1)
ومما لاشك فيه أن شباب المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى وحدة الصف ولَمِّ الشمل، والإعراض ـ ولو بشكل محدود ـ عن ما يثير الكراهية والعداوة، وسوء الفهم، وذلك يتوقف على خطوات جريئة يخطوها المصلحون من أبناء الأمة يتجاوزون بها التعصب بكل أشكاله، ويكسرون أقفال العقول التي أحكمها الإنتماء الطائفي، ويكشفون أقنعة الزيف التي يستتر وراءها دعاة التفرقة والتشرذم.
ومن أهم أسباب التقارب والتوحد في نظري:
1 ـ إحترام رأي ذوي الرأي، والتعامل معهم برفق وإنصاف.
2ـ التسامح في المسائل الخلافية التي لاتؤثر في جوهر الدين والعقيدة، وحمل الآراء الإجتهادية التي تعتبر أدلتها ظنية على أحسن المحامل ، لما لذلك من أثر على تقارب المسلمين ووحدتهم.
قال الإمام النَّظَّار يحيى بن حمزة في معرض حديثه على فوائد التصويب:
(( وأما ثانياً: فلأن لا يستوحش الناظر لما يرى من كثرة الخلاف في كل مسألة من المسائل الاجتهادية، فإذا تحقق أنها كلها صائبة هان عليه الأمر ولم يعظم عليه الخطاب، فيبقى في حيرة من أمره فإذا عرف أنها كلها على الحق زال عنه الخوف، وزاح عنه الطيش والفشل.
وأما ثالثاً: فلأن لايستعجل إلى تخطئة من يخالفه في المسالك، فيحكم له بخطأ أو بهلاك من غير بصيرة، ومع إدراك هذه الخصلة ـ أعني معرفة التصويب ـ لايستعجل بهلاك من يخالفه، وكيف يقع الهلاك والآراء كلها صائبة، وكلها حق وصواب، وهذا من فضل اللّه ورحمته وعظيم منته على الخلق وجزيل نعمته.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن كل مسألة ليس فيها دلالة قاطعة فالأمة فيها فريقان:
فالفريق الأول قائلون: بأن الواقعة ليس فيها حق معين، وأن الآراء كلها حق وصواب، فهؤلاء المصوبة: أئمة الزيدية، والجماهير من المعتزلة، والمحققون من الأشعرية، وعليه جمهور الفقهاء أبو حنيفة والشافعي ومالك وأتباعهم .. الخ كلامه )) (1).
__________
(1) ـ كتاب الانتصار ـ خ ـ الجزء الأول المقدمة الثالثة.(1/2)
3 ـ العمل على كشف الحقائق وإبراز البراهين والتعليلات الصحيحة لكل المسائل المتنازع فيها، لأن إبراز الحجة وإيضاح الدليل على أي مسألة خلافية بين المسلمين تُعَرِّف المخالف أن لمخالفه حجة وأنه يستند إلى دليل فيما يذهب إليه، فيعذره ولايتعامل معه كمستهين بالشرع ومبتدعٍ مالايجوز، وقد يبدوله أن ما عند مخالفه هو الصواب الذي يجب الذهاب إليه والعمل بمقتضاه، وهذا بدوره يقرب بين المسلمين ويرشدهم إلى إمكانية الاختلاف بعيدا عن التفرق وتنازع.
وقد حاولت أن أقدم نموذجا لذلك ليكون شاهدا ودليلا على ما ذكرت؛ فقمت بنشر هذا الكتاب الجليل الذي يعد من ذخائر التراث الإسلامي.
أرجو أن أكون قد وفقت لما أردت وأحسنت الإختيار و اللّه الموفق للصواب.
وقبل عرض نص الكتاب هذه كلمات مختصرة عن: الموضوع، والكتاب، المؤلف.
تساؤلات حول حي على خير العمل
مما يثير التساؤل والتأمل ما وقع المسلمون فيه من الخلاف في صفة أذان الصلاة، فإننا نسمعه اليوم يؤدى بكيفيات متعددة، منها إدراج (حي على خير العمل) فيه أو تنحيتها عنه، رغم أنه كان يرفع بصوت عال في حضرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأصحابه رضي اللّه عنهم مدة طويلة.
وحين تتبعت ما ذكر عن حي على خير العمل من الخلاف، تساءلت ماذا عسى أن يكون مقصد من أثبت هذه الجملة أو حَذَفَها ؟! ثم لماذا اتفق أهل البيت عليهم السلام على ذكرها في أذانهم ؟ وماهي الفائدة العائدة عليهم من ذكرها ؟ وإذا فرضنا أنها حُشِرَت في الأذان فمتى حشرت ؟ ومن هذا العبقري الذي حشرها ؟ وماهو هدفه ؟ ولماذا عمل بها جمهور الشيعة على اختلاف بلدانهم ومذاهبهم ؟ ثم لماذا أصر بعض الصحابة على التأذين بها ؟ هل ذلك صدفة ؟ أم أن الشرع وراء كل ذلك ؟ هذه التساؤلات تفتقر إلى إجابات دقيقة ومعقولة، أرجو أن يؤدي هذا الكتاب المطلوب في الرد عليها.
(حي على خير العمل) بين الشرعية والابتداع(1/3)
كان أول ما تبادر إلى ذهني ـ في بداية البحث ـ أن تساءلت: ألم يكن الأذان يرفع في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كل يوم عدة مرات، على هيئة نداء يسمعه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وسائر الصحابة ؟ وهل شرع وفيه: حي على خير العمل، أم لا ؟ ومن أين جاء الخلاف ؟ وكيف أمكن الاختلاف في شيء سمعه آلاف الناس آلاف المرات ؟
وعلى هذا التساؤل وجدت أما مي الإجابات الأربع التالية:
الإجابة الأولى: تفيد أن جملة (حي على خير العمل) في الأذان مبتدعة، وأنها لم تشرع أصلا، وأن بعض الرواة أقحم هذه الجملة في الأذان إما لجهله، أو لأنه مندسٌ على المسلمين ليزيف عليهم دينهم، وهذه إجابة عوام أهل السنة ومتعصبيهم.
وتأملت في هذه الإجابة فوجدت أنها ـ بحق ـ غير موضوعية ولا عادلة، لعدة أسباب:
السبب الأول: أنه قد صح عند جميع المسلمين أن من الصحابة من كان يذكرها في أذانه مؤكداً على أنه إنما يقولها اقتداءً برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وذلك على مرأى ومسمع من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد أو يَدَّعي أنه ابتدعها.
السبب الثاني: أن الأذان نداء يرفع كل يوم خمس مرات في كل بلد للمسلمين فيه وجود، فكيف يتأتى لجاهل أو مندس أن يشكك فيه، أو يضيف إليه ما ليس منه تحت سمع وبصر علماء الأمة وأئمة المذاهب دون أن يتصدو له وينبهوا عليه ؟
السبب الثالث: أن أصحاب هذه الإجابة لم يحددوا الراوي الذي أقحم هذه الجملة، أو على الأقل العصر الذي أقحمت فيه حتى يمكن النظر في ذلك.
الإجابة الثانية: تفيد أن الأذان شرع أولاً وفيه حي على خير العمل، ثم نحيت عنه بأمر من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على سبيل النسخ، فعمل من حذفها بالناسخ، وبقي المثبتون على العمل بالمنسوخ، أشار إلى ذلك المقبلي في المنار(1).
__________
(1) ـ المنار 1/146.(1/4)
وهذه الإجابة تفيد الاعتراف بشرعية الأ ذان بحي على خير العمل، وتفتقر إلى إقامة الدليل على نسخها، ولم يورد صاحب هذه الإجابة ما يعول عليه في ذلك، وإنما تشبث بما روي عن عبدالله بن عمر وعلي زين العابدين أنهما كانا يقولان ـ في: الأذان بحي على خير العمل ـ : هو الأذان الأول.
وهذا ينتقض عليه بأنه قد صح عنهما عند الجميع أنهما كانا يثبتانها في أذانهما، فلو علما نسخا لتجنبا ذكرها ، ولم تُسمع هذه الدعوى في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين، وإنما هي مجرد تخمين.
الإجابة الثالثة: تفيد أن الخليفة عمر بن الخطاب هو الذي اقترح تنحيتها من الأذان، مبرراً ذلك بأن لايتثبط الناس عن الجهاد.
وهذه الإجابة مؤيدة بأدلة وشواهد قوية تطمئن النفس إلى صحتها، منها: أن الخلاف في هذه المسألة لم يظهر في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإنما عرف بعد وفاته، وبالتحديد في أيام خلافة عمر بن الخطاب، وبذلك تظافرت الروايات، وقد أورد الحافظ أبو عبد اللّه العلوي في (كتاب الأذان) جملة من تلك الروايات، منها :
ـ ما روي عن جابر بن عبدالله أنه قال: كان على عهد رسول اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول المؤذن ـ بعد قوله: حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ ـ: حَيَّ عَلَى خَيْرِ العَمَلِ . فلما كان عمر بن الخطاب في خلافته نهى عنه كراهة أَنْ يُتّكل عن الجهاد (1).
ـ وما روي عن عطاء بن السائب عن أبيه، عن عمر أنه كان يؤذن بحَيَّ عَلَى خَيْرِ العَمَلِ، ثُمَّ تَرَكَ ذلك، وقال: أخافُ أَنْ يتكل النَّاس(2).
ـ وما روي عن ابن عمر، أنه قال: كانت في الأذان، فخاف عمر أَنْ يتَّكل الناس عن الجهاد(3).
__________
(1) ـ انظر الحديث رقم (10).
(2) ـ انظر الحديث رقم (84) .
(3) ـ انظر الحديث رقم (88) .(1/5)