و هذا البيت يبطل رواية من روى بيت النابغة كذي العر بضم العين لأن العر بالضم قرح في مشافر الإبل غير الجرب و العر بالفتح الجرب نفسه فإذا دل الشعر على أنه يكوى الصحيح ليبرأ الأجرب فالواجب أن يكون بيت النابغة كذي العر بالفتح. و مثل هذا البيت قول الآخر
فألزمتني ذنبا و غيري جره حنانيك لا يكوى الصحيح بأجربا
إلا أن يكون إطلاق لفظ الجرب على هذا المرض المخصوص من باب المجاز لمشابهته له شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 387و من تخيلات العرب و مذاهبها أنهم كانوا يفقئون عين الفحل من الإبل إذا بلغت ألفا كأنهم يدفعون العين عنها قال الشاعرفقأنا عيونا من فحول بهازر و أنتم برعي البهم أولى و أجدر
و قال آخر
وهبتها و كنت ذا امتنان تفقأ فيها أعين البعران
و قال الآخر
أعطيتها ألفا و لم تبخل بها ففقأت عين فحيلها معتافا
و قد ظن قوم أن بيت الفرزدق و هو
غلبتك بالمفقئ و المعنى و بيت المحتبي و الخافقات
من هذا الباب و ليس الأمر على ذلك و إنما أراد بالفق ء قوله لجرير و لست و لو فقأت عينيك واجدا أخا كلقيط أو أبا مثل دارم
و أراد بالمعنى قوله لجرير أيضا
و إنك إذ تسعى لتدرك دارما لأنت المعنى يا جرير المكلف
و أراد بقوله بيت المحتبي قوله
بيت زرارة محتب بفنائه و مجاشع و أبو الفوارس نهشل
و بيت الخافقات قوله
و معصب بالتاج يخفق فوقه خرق الملوك له خميس جحفل
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 388فأما مذهبهم في البلية و هي ناقة تعقل عند القبر حتى تموت فمذهب مشهور و البلية أنهم إذا مات منهم كريم بلوا ناقته أو بعيره فعكسوا عنقها و أداروا رأسها إلى مؤخرها و تركوها في حفيرة لا تطعم و لا تسقى حتى تموت و ربما أحرقت بعد موا و ربما سلخت و ملئ جلدها ثماما و كانوا يزعمون أن من مات و لم يبل عليه حشر ماشيا و من كانت له بلية حشر راكبا على بليته قال جريبة بن الأشيم الفقعسي لابنه(20/232)


يا سعد إما أهلكن فإنني أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب لا أعرفن أباك يحشر خلفكم تعبا يجر على اليدين و ينكب و احمل أباك على بعير صالح و تق الخطيئة إنه هو أصوب و لعل لي مما جمعت مطية في الحشر أركبها إذا قيل اركبو قال جريبة أيضا
إذا مت فادفني بجداء ما بها سوى الأصرخين أو يفوز راكب فإن أنت لم تعقر علي مطيتي فلا قام في مال لك الدهر جالب و لا تدفنني في صوى و ادفننني بديمومة تنزو عليها الجنادو قد ذكرت في مجموعي المسمى بالعبقري الحسان أن أبا عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع رحمه الله ذكر في كتابه في آراء العرب و أديانها هذه الأبيات و استشهد بها على ما كانوا يعتقدون في البلية و قلت إنه وهم في ذلك و إنه ليس في هذه الأبيات دلالة على هذا المعنى و لا لها به تعلق و إنما هي وصية لولده أن يعقر مطيته بعد موته إما لكيلا يركبها غيره بعده أو على هيئة القربان كالهدي المعقور شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 389بمكة أو كما كانوا يعقرون عند القبور و مذهبهم في العقر على القبور كقول زياد الأعجم في المغيرة بن اللب
إن السماحة و المروءة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح فإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان و كل طرف سابحو قال الآخر(20/233)


نفرت قلوصي عن حجارة حرة بنيت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه فإنه شريب خمر مسعر لحروب لو لا السفار و بعد خرق مهمه لتركتها تحبو على العرقوو مذهبهم في العقر على القبور مشهور و ليس في هذا الشعر ما يدل على مذهبهم في البلية فإن ظن ظان أن قوله أو يفوز راكب فيه إيماء إلى ذلك فليس الأمر كما ظنه و معنى البيت ادفني بفلاة جداء مقطوعة عن الإنس ليس بها إلا الذئب و الغراب أو أن يعتسف راكبها المفازة و هي المهلكة سموها مفازة على طريق الفأل و قيل إنها تسمى مفازة من فوز أي هلك فليس في هذا البيت ذكر البلية و لكن الخالع أخطأ في إيراده في هذا الباب كما أخطأ في هذا الباب أيضا في إيراده قول مالك بن الريب
و عطل قلوصي في الركاب فإنها ستبرد أكبادا و تبكي بواكيا
فظن أن ذلك من هذا الباب الذي نحن فيه و لم يرد الشاعر ذلك و إنما أراد شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 390لا تركبوا راحلتي بعدي و عطلوها بحيث لا يشاهدها أعادي و أصادقي ذاهبة جائية تحت راكبها فيشمت العدو و يساء الصديق و قد أخطأ الخالع في مواضع عده من هذا الكتاب أورد أشعارا في غير موضعها و ظنها مناسبة لما هو فيه فمنها ما ذكرناه و منها أنه ذكر مذهب العرب في الحلي و وضعه على اللديغ و استشهد عليه بقول الشاعر
يلاقي من تذكر آل ليلى كما يلقى السليم من العداد
و لا وجه لإيراد هذا البيت في هذا الموضع فالعداد معاودة السم الملسوع في كل سنة في الوقت الذي لدغ فيه و ليس هذا من باب الحلي بسبيل. و من ذلك إيراده قول الفرزدق غلبتك بالمفقئ في باب فق ء عيون الفحول إذا بلغت الإبل ألفا و قد تقدم شرحنا لموضع الوهم في ذلك و سنكر هاهنا كثيرا من المواضع التي وهم فيها إن شاء الله. و مما ورد عن العرب في البلية قول بعضهم
أ بني زودني إذا فارقتني في القبر راحلة برحل فاترللبعث أركبها إذا قيل اركبوا مستوثقين معا لحشر الحاشر
و قال عويم النبهاني(20/234)


أ بني لا تنسى البلية إنها لأبيك يوم نشوره مركوب
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 391و من تخيلات العرب و مذاهبها ما حكاه ابن الأعرابي قال كانت العرب إذا نفرت الناقة فسميت لها أمها سكنت من النفار قال الراجزأقول و الوجناء بي تقحم ويلك قل ما اسم أمها يا علكم
علكم اسم عبد له و إنما سأل عبده ترفعا أن يعرف اسم أمها لأن العبيد بالإبل أعرف و هم رعاتها. و أنشد السكري
فقلت له ما اسم أمها هات فادعها تجبك و يسكن روعها و نفارها
و مما كانت العرب كالمجتمعة عليه الهامة و ذلك أنهم كانوا يقولون ليس من ميت يموت و لا يقتل إلا و يخرج من رأسه هامة فإن كان قتل و لم يؤخذ بثأره نادت الهامة على قبره اسقوني فإني صدية و عن هذا قال النبي ص لا هامة. و حكي أن أبا زيد كان يقول الهامة مشددة الميم إحدى هوام الأرض و أنها هي المتلونة المذكورة. و قيل إن أبا عبيد قال ما أرى أبا زيد حفظ هذا و قد يسمونها الصدى و الجمع أصداء قال
و كيف حياة أصداء و هام
و قال أبو دواد الإيادي
سلط الموت و المنون عليهم فلهم في صدى المقابر هام
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 392و قال بعضهم لابنهو لا تزقون لي هامة فوق مرقب فإن زقاء الهام للمرء عائب تنادي ألا اسقوني و كل صدى به و تلك التي تبيض منها الذوائبيقول له لا تترك ثأري إن قتلت فإنك إن تركته صاحت هامتي اسقوني فإن كل صدى و هو هاهنا العطش بأبيك و تلك التي تبيض منها الذوائب لصعوبتها و شدتها كما يقال أمر يشيب رأس الوليد و يحتمل أن يريد به صعوبة الأمر عليه و هو مقبور إذا لم يثأر به و يحتمل أن يريد به صعوبة الأمر على ابنه يعني أن ذلك عار عليك و قال ذو الإصبع
يا عمرو إلا تدع شتمي و منقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
و قال آخر
فيا رب إن أهلك و لم ترو هامتي بليلى أمت لا قبر أعطش من قبري(20/235)


و يحتمل هذا البيت أن يكون خارجا عن هذا المعنى الذي نحن فيه و أن يكون ري هامته الذي طلبه من ربه هو وصال ليلى و هما في الدنيا و هم يكنون عما يشفيهم بأنه يروي هامتهم. و قال مغلس الفقسي
و إن أخاكم قد علمت مكانه بسفح قبا تسفي عليه الأعاصرله هامة تدعو إذا الليل جنها بني عامر هل للهلالي ثائر
و قال توبة بن الحمير
و لو أن ليلى الأخيلية سلمت علي و دوني جندل و صفائح
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 393لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائو قال قيس بن الملوح و هو المجنون
و لو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا و من دوننا رمس من الأرض أنكب لظل صدى رمسي و إن كنت رمة لصوت صدى ليلى يهش و يطربو قال حميد بن ثور
ألا هل صدى أم الوليد مكلم صداي إذا ما كنت رمسا و أعظما
و مما أبطله الإسلام قول العرب بالصفر زعموا أن في البطن حية إذا جاع الإنسان عضت على شرسوفه و كبده و قيل هو الجوع بعينه ليس أنها تعض بعد حصول الجوع فأما لفظ الحديث
لا عدوى و لا هامة و لا صفر و لا غول
فإن أبا عبيدة معمر بن المثنى قال هو صفر الشهر الذي بعد المحرم قال نهى ع عن تأخيرهم المحرم إلى صفر يعني ما كانوا يفعلونه من النسي ء و لم يوافق أحد من العلماء أبا عبيدة على هذا التفسير و قال الشاعر لا يتأرى لما في القدر يرقبه و لا يعض على شرسوفه الصفر
و قال بعض شعراء بني عبس يذكر قيس بن زهير لما هجر الناس و سكن الفيافي شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 394و أنس بالوحش ثم رأى ليلة نارا فعشا إليها فشم عندها قتار اللحم فنازعته شهوته فغلبها و قهرها و مال إلى شجرة سلم فلم يزل يكدمها و يأكل من خبطها إلى أن ماتإن قيسا كان ميتته كرم و الحي منطلق شام نارا بالهوى فهوى و شجاع البطن يختفق في دريس ليس يستره رب حر ثوبه خلو قوله بالهوى اسم موضع بعينه و قال أبو النجم العجلي
إنك يا خير فتى نستعدي على زمان مسنت بجهدعضا كعض صفر بكبد
و قال آخر(20/236)

4 / 69
ع
En
A+
A-