إن الذي أرسى دعائم أحمد و علا بدعوته على كيوان أبناء قيلة وارثو شرف العلا و عراعر الأقيال من قحطان بسيوفهم يوم الوغى و أكفهم ضربت مصاعب ملكه بجران لو لا مصارعهم و صدق قراعهم خرت عروش الدين للأذقان فليشكرن محمد أسياف من لولاه كان كخالد بن سو هذا إفراط قبيح و لفظ شنيع و الواجب أن يصان قدر النبوة عنه و خصوصا البيت الأخير فإنه قد أساء فيه الأدب و قال ما لا يجوز قوله و خالد بن سنان كان من بني عبس بن بغيض من قيس عيلان ادعى النبوة و قيل إنه كانت تظهر عليه آيات و معجزات ثم مات و انقرض دينه و دثرت دعوته و لم يبق إلا اسمه و ليس يعرفه كل الناس بل البعض منهم
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 475186وَ قَالَ ع الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّتَهِ قال الرضي رحمه الله تعالى و هذه من الاستعارات العجيبة كأنه شبه السته بالوعاء و العين بالوكاء فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء و هذا القول في الأشهر الأظهر من كلام النبي ص و قد رواه قوم لأمير المؤمنين ع و ذكر ذلك المبرد في الكتاب المقتضب في باب اللفظ المعروف قال الرضي و قد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثار النبوية
المعروف أن هذا من كلام رسول الله ص ذكره المحدثون في كتبهم و أصحاب غريب الحديث في تصانيفهم و أهل الأدب في تفسير هذه اللفظة في مجموعاتهم اللغوية و لعل المبرد اشتبه عليه فنسبه إلى أمير المؤمنين ع و الرواية بلفظ التثنية
العينان وكاء السته و السته الاست. شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 187و قد جاء في تمام الخبر في بعض الروايات فإذا نامت العينان استطلق الوكاء
و الوكاء رباط القربة فجعل العينين وكاء و المراد اليقظة للسته كالوكاء للقربة و منه
الحديث في اللقطة احفظ عفاصها و وكاءها و عرفها سنة فإن جاء صاحبها و إلا فشأنك بها
و العفاص السداد و الوكاء السداد و هذه من الكنايات اللطيفة
فصل في ألفاظ الكنايات و ذكر الشواهد عليها(21/129)
و قد كنا قدمنا قطعة صالحة من الكنايات المستحسنة و وعدنا أن نعاود ذكر طرف منها و هذا الموضع موضعه فمن الكناية عن الحدث الخارج و هو الذي كنى عنه أمير المؤمنين ع أو رسول الله ص الكناية التي ذكرها يحيى بن زياد في شعره قيل إن يحيى بن زياد و مطيع بن إياس و حمادا الراوية جلسوا على شرب لهم و معهم رجل منهم فانحل وكاؤه فاستحيا و خرج و لم يعد إليهم فكتب إليه يحيى بن زياد
أ من قلوص غدت لم يؤذها أحد إلا تذكرها بالرمل أوطاناخان العقال لها فانبت إذ نفرت و إنما الذنب فيها للذي خانامنحتنا منك هجرانا و مقلية و لم تزرنا كما قد كنت تغشاناخفض عليك فما في الناس ذو إبل إلا و أينقه يشردن أحيانا
و ليس هذا الكتاب أهلا أن يضمن حكاية سخيفة أو نادرة خليعة فنذكر فيه ما جاء في هذا المعنى و إنما جرأنا على ذكر هذه الحكاية خاصة كناية أمير المؤمنين ع أو رسول الله ص عنها و لكنا نذكر كنايات كثيرة في غير هذا المعنى مستحسنة ينتفع القارئ بالوقوف عليها. شرح نهجلبلاغة ج : 20 ص : 188يقال فلان من قوم موسى إذا كان ملولا إشارة إلى قوله تعالى وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ. قال الشاعر
فيا من ليس يكفيه صديق و لا ألفا صديق كل عام أظنك من بقايا قوم موسى فهم لا يصبرون على طعامو قال العباس بن الأحنف
كتبت تلوم و تستريث زيارتي و تقول لست لنا كعهد العاهدفأجبتها و دموع عيني سجم تجري على الخدين غير جوامديا فوز لم أهجركم لملالة عرضت و لا لمقال واش حاسدلكنني جربتكم فوجدتكم لا تصبرون على طعام واحد
و يقولون للجارية الحسناء قد أبقت من رضوان قال الشاعر
جست العود بالبنان الحسان و تثنت كأنها غصن بان فسجدنا لها جميعا و قلنا إذ شجتنا بالحسن و الإحسان حاش لله أن تكوني من الإنس و لكن أبقت من رضواو يقولون للمكشوف الأمر الواضح الحال ابن جلا و هو كناية عن الصبح و منه ما تمثل به الحجاج(21/130)
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
و منه قول القلاخ بن حزن شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 189أنا القلاخ بن القلاخ ابن جلا. و منه قولهم فلان قائد الجمل لأنه لا يخفى لعظم الجمل و كبر جثته و في المثل ما استتر من قاد جملا و قالوا كفى برغائها نداء و مثل هذا قولهم ما يوم حليمة بسر يقال ذلك في الأمرلمشهور الذي لا يستر و يوم حليمة يوم التقى المنذر الأكبر و الحارث الغساني الأكبر و هو أشهر أيام العرب يقال إنه ارتفع من العجاج ما ظهرت معه الكواكب نهارا و حليمة اسم امرأة أضيف اليوم إليها لأنها أخرجت إلى المعركة مراكن الطيب فكانت تطيب بها الداخلين إلى القتال فقاتلوا حتى تفانوا. و يقولون في الكناية عن الشيخ الضعيف قائد الحمار و إشارة إلى ما أنشده الأصمعي
آتي الندي فلا يقرب مجلسي و أقود للشرف الرفيع حماري
أي أقوده من الكبر إلى موضع مرتفع لأركبه لضعفي و مثل ذلك كنايتهم عن الشيخ الضعيف بالعاجن لأنه إذا قام عجن في الأرض بكفيه قال الشاعر
فأصبحت كنتيا و أصبحت عاجنا و شر خصال المرء كنت و عاجن
قالوا الكنتي الذي يقول كنت أفعل كذا و كنت أركب الخيل يتذكر ما مضى من زمانه و لا يكون ذلك إلا عند الهرم أو الفقر و العجز. و مثله قولهم للشيخ راكع قال لبيد
أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع
و الركوع هو التطأطؤ و الانحناء بعد الاعتدال و الاستواء و يقال للإنسان إذا انتقل من الثروة إلى الفقر قد ركع قال
لا تهين الفقير علك أن تركع يوما و الدهر قد رفعه
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 190و في هذا المعنى قال الشاعرارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه يوما فتدركه الحوادث قد نمايجزيك أو يثني عليك و إن من يثني عليك بما فعلت فقد جزى
و مثله أيضا
و أكرم كريما إن أتاك لحاجة لعاقبة إن العضاه تروح(21/131)
تروح الشجر إذا انفطر بالنبت يقول إن كان فقيرا فقد يستغنى كما إن الشجر الذي لا ورق عليه سيكتسى ورقا و يقال ركع الرجل أي سقط. و قال الشاعر
خرق إذا ركع المطي من الوجى لم يطو دون رفيقه ذا المرودحتى يئوب به قليلا فضله حمد الرفيق نداك أو لم يحمد
و كما يشبهون الشيخ بالراكع فيكنون به عنه كذلك يقولون يحجل في قيده لتقارب خطوه قال أبو الطمحان القيني
حنتني حانيات الدهر حتى كأني خاتل أدنو لصيدقريب الخطو يحسب من رآني و لست مقيدا أني بقيد
و نحو هذا قولهم للكبير بدت له الأرنب و ذلك أن من يختل الأرنب ليصيدها يتمايل في مشيته و أنشد ابن الأعرابي في النوادر
و طالت بي الأيام حتى كأنني من الكبر العالي بدت لي أرنب
و نحوه يقولون للكبير قيد بفلان البعير أي لا قوة ليده على أن يصرف البعير تحته على حسب إرادته فيقوده قائد يحمله حيث يريد. شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 191و من أمثالهم لقد كنت و ما يقاد بي البعير يضرب لمن كان ذا قوة و عزم ثم عجز و فتر. و من الكنايا عن شيب العقة قولهم قد عض على صوفه. و يكنون عن المرأة التي كبر سنها فيقولون امرأة قد جمعت الثياب أي تلبس القناع و الخمار و الإزار و ليست كالفتاة التي تلبس ثوبا واحدا. و يقولون لمن يخضب يسود وجه النذير و قالوا في قوله تعالى وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ إنه الشيب و قال الشاعر
و قائلة لي اخضب فالغواني تطير من ملاحظة القتيرفقلت لها المشيب نذير موتي و لست مسودا وجه النذير
و زاحم شاب شيخا في طريق فقال الشاب كم ثمن القوس يعيره بانحناء الظهر فقال الشيخ يا ابن أخي إن طال بك عمر فسوف تشتريها بلا ثمن. و أنشد لابن خلف
تعيرني وخط المشيب بعارضي و لو لا الحجول البلق لم تعرف الدهم حنى الشيب ظهري فاستمرت مريرتي و لو لا انحناء القوس لم ينفذ السهمو يقولون لمن رشا القاضي أو غيره صب في قنديله زيتا و أنشد(21/132)
و عند قضاتنا خبث و مكر و زرع حين تسقيه يسنبل إذا ما صب في القنديل زيت تحولت القضية للمقندلو كان أبو صالح كاتب الرشيد ينسب إلى أخذ الرشا و كان كاتب أم جعفر. شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 192و هو سعدان بن يحيى كذلك فقال لها الرشيد يوما أ ما سمعت ما قيل في كاتبك قالت ما هو فأنشدهاصب في قنديل سعدان مع التسليم زيتاو قناديل بنيه قبل أن تخفى الكميتا
قالت فما قيل في كاتبك أشنع و أنشدته
قنديل سعدان علا ضوءه فرخ لقنديل أبي صالح تراه في مجلسه أحوصا من لمحه للدرهم اللائحو يقولون لمن طلق ثلاثا قد نحرها بمثلثه. و يقولون أيضا أعطاها نصف السنة. و يقولون لمن يفخر بآبائه هو عظامي و لمن يفخر بنفسه هو عصامي إشارة إلى قول النابغة في عصام بن سهل حاجب النعمان
نفس عصام سودت عصاما و علمته الكر و الإقداماو جعلته ملكا هماما
و أشار بالعظامي إلى فخره بالأموات من آبائه و رهطه و قال الشاعر
إذا ما الحي عاش بعظم ميت فذاك العظم حي و هو ميت
و نحو هذا أن عبد الله بن زياد بن ظبيان التميمي دخل على أبيه و هو يجود بنفسه فقال أ لا أوصي بك الأمير فقال إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت فالحي هو الميت و يقال إن عطاء بن أبي سفيان قال ليزيد بن معاوية أغنني عن غيرك قال
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 193حسبك ما أغناك به معاوية قال فهو إذن الحي و أنت الميت و مثل قولهم عظامي قولهم خارجي أي يفخر بغير أولية كانت له قال كثير لعبد العزيزأبا مروان لست بخارجي و ليس قديم مجدك بانتحال
و يكنون عن العزيز و عن الذليل أيضا فيقولون بيضة البلد فمن يقولها للمدح يذهب إلى أن البيضة هي الحوزة و الحمى يقولون فلان يحمي بيضته أي يحمي حوزته و جماعته و من يقولها للذم يعني أن الواحدة من بيض النعام إذا فسدت تركها أبواها في البلد و ذهبا عنها قال الشاعر في المدح
لكن قائله من لا كفاء له من كان يدعى أبوه بيضة البلد
و قال الآخر في الذم(21/133)