شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 467175وَ قَالَ ع عَلَامَةُ الْإِيمَانِ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وَ أَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ وَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَقد أخذ المعنى الأول القائل
عليك بالصدق و لو أنه أحرقك الصدق بنار الوعيد
و ينبغي أن يكون هذا الحكم مقيدا لا مطلقا لأنه إذا أضر الصدق ضررا عظيما يؤدي إلى تلف النفس أو إلى قطع بعض الأعضاء لم يجز فعله صريحا و وجبت المعاريض حينئذ. فإن قلت فالمعاريض صدق أيضا فالكلام على إطلاقه قلت هي صدق في ذاتها و لكن مستعملها لم يصدق فيما سئل عنه و لا كذب أيضا لأنه لم يخبر عنه و إنما أخبر عن شي ء آخر و هي المعاريض و التارك للخبر لا يكون صادقا و لا كاذبا فوجب أن يقيد إطلاق الخبر بما إذا كان الضرر غير عظيم و كانت نتيجة الصدق أعظم نفعا من تلك المضرة. قال ع و ألا يكون في حديث فضل عن علمك متى زاد منطق لرجل على علمه فقد لغا و ظهر نقصه و الفاضل من كان علمه أكثر من منطقه قوله و إن تتقي الله في حديث غيرك أي في نقله و روايته فترويه كما سمعته من غير تحريف
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 468176وَ قَالَ ع يَغْلِبُ الْمِقْدَارُ عَلَى التَّقْدِيرِ حَتَّى تَكُونَ الآْفَةُ فِي التَّدْبِيرِ قال و قد مضى هذا المعنى فيما تقدم برواية تخالف بعض هذه الألفاظ
قد تقدم هذا المعنى و هو كثير جدا و من جيده قول الشاعر
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه و لكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى تبلغ النفس عذرها و قلقل يبغي العز كل مقلقلو قال أبو تمام
و ركب كأطراف الأسنة عرسوا على مثلها و الليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره و ليس عليهم أن تتم عواقبهو قال آخر
فإن بين حيطانا عليه فإنما أولئك عقالاته لا معاقله(21/124)


شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 469177وَ قَالَ ع الْحِلْمُ وَ الْأَنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِقد تقدم هذا المعنى و شرحه مرارا. و قال ابن هانئ
و كل أناة في المواطن سؤدد و لا كأناة من تدبر محكم و من يتبين أن للسيف موضعا من الصفح يصفح عن كثير و يحلمو قال أرباب المعاني علمنا الله تعالى فضيلة الأناة بما حكاه عن سليمان سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ. و كان يقال الأناة حصن السلامة و العجلة مفتاح الندامة. و كان يقال التأني مع الخيبة خير من التهور مع النجاح. و قال الشاعر
الرفق يمن و الأناة سعادة فتأن في أمر تلاق نجاحا
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 178و قال من كره الأناة و ذمها لو كانت الأناة محمودة و العجلة مذمومة لما قال موسى لربه وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى. و أنشدواعيب الأناة و إن سرت عواقبها أن لا خلود و أن ليس الفتى حجرا
و قال آخر
كم من مضيع فرصة قد أمكنت لغد و ليس له غد بمواتي حتى إذا فاتت و فات طلابها ذهبت عليها نفسه حسرات شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 470179وَ قَالَ ع الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجِزِقد تقدم كلامنا في الغيبة مستقصى. و قيل للأحنف من أشرف الناس قال من إذا حضر هابوه و إذا غاب اغتابوه. و قال الشاعر
و يغتابني من لو كفاني اغتيابه لكنت له العين البصيرة و الأذناو عندي من الأشياء ما لو ذكرتها إذا قرع المغتاب من ندم سنا
و قد نظمت أنا كلمة الأحنف فقلت
أكل عرضي إن غبت ذما فإن أبت فمدح و رهبة و سجودهكذا يفعل الجبان شجاع حين يخلو و في الوغى رعديدلك مني حالان في عينك الجنة حسنا و في الفؤاد وقود(21/125)


شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 471180وَ قَالَ ع رُبَّ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِطالما فتن الناس بثناء الناس عليهم فيقصر العالم في اكتساب العلم اتكالا على ثناء الناس عليه و يقصر العابد في العبادة اتكالا على ثناء الناس عليه و يقول كل واحد منهما إنما أردت ما اشتهرت به للصيت و قد حصل فلما ذا أتكلف الزيادة و أعاني التعب و أيضا فإن ثناء الناس على الإنسان يقتضي اعتراء العجب له و إعجاب المرء بنفسه مهلك. و اعلم أن الرضي رحمه الله قطع كتاب نهج البلاغة على هذا الفصل و هكذا وجدت النسخة بخطه و قال هذا حين انتهاء الغاية بنا إلى قطع المنتزع من كلام أمير المؤمنين ع حامدين لله سبحانه على ما من به من توفيقنا لضم ما انتشر من أطرافه و تقريب ما بعد من أقطاره مقررين العزم كما شرطنا أولا على تفضيل أوراق من البياض في آخر كل باب من الأبواب لتكون لاقتناص الشارد و استلحاق الوارد و ما عساه أن يظهر لنا بعد الغموض و يقع إلينا بعد الشذوذ و ما توفيقنا إلا بالله عليه توكلنا و هو حسبنا و نعم الوكيل نعم المولى و نعم النصير. ثم وجدنا نسخا كثيرة فيها زيادات بعد هذا الكلام قيل إنها وجدت في نسخة كتبت في حياة الرضي رحمه الله و قرئت عليه فأمضاها و أذن في إلحاقها بالكتاب نحن نذكرها
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 472181وَ قَالَ ع الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا وَ لَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَاقال أبو العلاء المعري مع ما كان يرمى به في هذا المعنى ما يطابق إرادة أمير المؤمنين ع بلفظه هذا
خلق الناس للبقاء فضلت أمة يحسبونهم للنفادإنما ينقلون من دار أعمال إلى دار شقوة أو رشاد(21/126)


شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 473182وَ قَالَ ع إِنَّ لِبَنِي أُمَيَّةَ مِرْوَداً يَجْرُونَ فِيهِ وَ لَوْ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَوْ كَادَتْهُمُ الضِّبَاعُ لَغَلَبَتْهُمْ قال الرضي رحمه الله تعالى و هذا من أفصح الكلام و أغربه و المرود هاهنا مفعل من الإرواد و هو الإمهال و الإنظار فكأنه ع شبه المهلة التي هم فيها بالمضمار الذي يجرون فيه إلى الغاية فإذا بلغوا منقطعها انتقض نظامهم بعدها
هذا إخبار عن غيب صريح لأن بني أمية لم يزل ملكهم منتظما لما لم يكن بينهم اختلاف و إنما كانت حروبهم مع غيرهم كحرب معاوية في صفين و حرب يزيد أهل المدينة و ابن الزبير بمكة و حرب مروان الضحاك و حرب عبد الملك ابن الأشعث و ابن الزبير و حرب يزيد ابنه بني المهلب و حرب هشام زيد بن علي فلما ولي الوليد بن يزيد و خرج عليه ابن عمه يزيد بن الوليد و قتله اختلف بنو أمية فيما بينهما و جاء الوعد و صدق من وعد به فإنه منذ قتل الوليد دعت دعاة بني العباس بخراسان و أقبل شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 183مروان بن محمد من الجزيرة يطلبلخلافة فخلع إبراهيم بن الوليد و قتل قوما من بني أمية و اضطرب أمر الملك و انتشر و أقبلت الدولة الهاشمية و نمت و زال ملك بني أمية و كان زوال ملكهم على يد أبي مسلم و كان في بدايته أضعف خلق الله و أعظمهم فقرا و مسكنة و في ذلك تصديق قوله ع ثم لو كادتهم الضباع لغلبتهم
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 474184وَ قَالَ ع فِي مَدْحِ الْأَنْصَارِ هُمْ وَ اللَّهِ رَبَّوُا الْإِسْلَامَ كَمَا يُرَبَّى الْفِلْوُ مَعَ غَنَائِهِم بِأَيْدِيهِمُ السِّبَاطِ وَ أَلْسِنَتِهِمُ السِّلَاطِالفلو المهر و يروى بأيديهم البساط أي الباسطة و الأولى جمع سبط يعني السماح و قد يقال للحاذق بالطعن إنه لسبط اليدين يريد الثقافة و ألسنتهم السلاط يعني الفصيحة. و قد تقدم القول في مدح الأنصار و لو لم يكن إلا(21/127)


قول رسول الله ص فيهم إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع
و لو لم يكن إلا ما قاله لعامر بن الطفيل فيهم لما قال له لأغزونك في كذا و كذا من الخيل يتوعده
فقال ع يكفي الله ذلك و أبناء قيلة
لكان فخرا لهم و هذا عظيم جدا و فوق العظيم و لا ريب أنهم الذين أيد الله بهم الدين و أظهر بهم الإسلام بعد خفائه و لولاهم لعجز المهاجرون عن حرب قريش و العرب و عن حماية رسول الله ص و لو لا مدينتهم لم يكن للإسلام ظهر يلجئون عليه و يكفيهم فخرا يوم حمراء الأسد شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 185يوم خرج بهم رسول الله ص إلى قريش بعد انكسار أصحابه و قتل من قتل منهم و خرجوا نحو القوم و الجراح فيهم فاشية و دماؤهم تسيل و إنهم مع ذلك كالأسد الغراث تتواثب على فرائسها و كم لهم من يوم أغر محجل و قالت الأنصار لو لا علي بن أبي طب ع في المهاجرين لأبينا لأنفسنا أن يذكر المهاجرون معنا أو أن يقرنوا بنا و لكن رب واحد كألف بل كألوف. و قد تقدم ذكر الشعر المنسوب إلى الوزير المغربي و ما طعن به القادر بالله الخليفة العباسي في دينه بطريقه و كان الوزير المغربي يتبرأ منه و يجحده و قيل إنه وجدت مسودة بخطه فرفعت إلى القادر بالله. و مما وجد بخطه أيضا و كان شديد العصبية للأنصار و لقحطان قاطبة على عدنان و كان ينتمي إلى الأزد أزد شنوءة قوله(21/128)

34 / 69
ع
En
A+
A-