فجعل أبو جعفر رحمه الله يهتز و يطرب ثم قال و الله لو مزجت هذه القصيدة بشعر البحتري لكادت تمتزج لسهولتها و سلامة ألفاظها و ما عليها من الديباجة و الرونق من يقول إن إمرأ القيس و زهيرا أشعر من هذا هلموا فليحاكموني. شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 168فأما إمرؤ الس بن حجر فقال محمد بن سلام الجمحي في كتاب طبقات الشعراء أخبرني يونس بن حبيب أن علماء البصرة كانوا يقدمونه على الشعراء كلهم و أن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى و أن أهل الحجاز و البادية يقدمون زهيرا و النابغة. قال ابن سلام فالطبقة الأولى إذن أربعة قال و أخبرني شعيب بن صخر عن هارون بن إبراهيم قال سمعت قائلا يقول للفرزدق من أشعر الناس يا أبا فراس فقال ذو القروح يعني إمرأ القيس قال حين يقول ما ذا قال حين يقول
وقاهم جدهم ببني أبيهم و بالأشقين ما كان العقاب
قال و أخبرني أبان بن عثمان البجلي قال مر لبيد بالكوفة في بني نهد فأتبعوه رسول يسأله من أشعر الناس فقال الملك الضليل فأعادوه إليه فقال ثم من فقال الغلام القتيل يعنى طرفة بن العبد و قال غير أبان قال ثم ابن العشرين قال ثم من قال الشيخ أبو عقيل يعني نفسه. قال ابن سلام و احتج لإمرئ القيس من يقدمه فقال إنه ليس قال ما لم يقولوه و لكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب فاتبعه فيها الشعراء منها استيقاف صحبه و البكاء في الديار و رقة النسيب و قرب المأخذ و تشبيه النساء بالظباء و بالبيض و تشبيه الخيل بالعقبان و العصي و قيد الأوابد و أجاد في النسيب و فصل بين النسيب و بين المعنى و كان أحسن الطبقة تشبيها. قال و حدثني معلم لبني داود بن علي قال بينا أنا أسير في البادية إذا أنا برجل على ظليم قد زمه و خطمة و هو يقول شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 16هل يبلغنيهم إلى الصباح هقل كأن رأسه جماح(21/119)
قال فما زال يذهب به ظليمه و يجي ء حتى أنست به و علمت أنه ليس بإنسي فقلت يا هذا من أشعر العرب فقال الذي يقول أ غرك مني أن حبك قاتلي و أنك مهما تأمري القلب يفعل
يعني إمرأ القيس قلت ثم من قال الذي يقول
و يبرد برد رداء العروس بالصيف رقرقت فيه العبيراو يسخن ليلة لا يستطيع نباحا بها الكلب إلا هريرا
ثم ذهب به ظليمه فلم أره. قال و حدث عوانة عن الحسن أن رسول الله ص قال لحسان بن ثابت من أشعر العرب قال الزرق العيون من بني قيس قال لست أسألك عن القبيلة إنما أسألك عن رجل واحد فقال حسان يا رسول الله إن مثل الشعراء و الشعر كمثل ناقة نحرت فجاء إمرؤ القيس بن حجر فأخذ سنامها و أطائبها ثم جاء المتجاوران من الأوس و الخزرج فأخذا ما والى ذلك منها ثم جعلت العرب تمزعها حتى إذا بقي الفرث و الدم جاء عمرو بن تميم و النمر بن قاسط فأخذاه
فقال رسول الله ص ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها خامل يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار(21/120)
فأما الأعشى فقد احتج أصحابه لتفضيله بأنه كان أكثرهم عروضا و أذهبهم في فنون الشعر و أكثرهم قصيدة طويلة جيدة و أكثرهم مدحا و هجاء و كان أول من سأل شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 170بشعره و إن لم يكن له بيت نادر على أفواه الناس كأبيات أصحابه الثلاثة. و قد سئل خ الأحمر من أشعر الناس فقال ما ينتهى إلى واحد يجمع عليه كما لا ينتهى إلى واحد هو أشجع الناس و لا أخطب الناس و لا أجمل الناس فقيل له يا أبا محرز فأيهم أعجب إليك فقال الأعشى كان أجمعهم. قال ابن سلام و كان أبو الخطاب الأخفش مستهترا به يقدمه و كان أبو عمرو بن العلاء يقول مثله مثل البازي يضرب كبير الطير و صغيره و يقول نظيره في الإسلام جرير و نظير النابغة الأخطل و نظير زهير الفرزدق. فأما قول أمير المؤمنين ع الملك الضليل فإنما سمي إمرؤ القيس ضليلا لما يعلن به في شعره من الفسق و الضليل الكثير الضلال كالشريب و الخمير و السكير و الفسيق للكثير الشرب و إدمان الخمر و السكر و الفسق فمن ذلك قوله
فمثلك حبلى قد طرقت و مرضعا فألهيتها عن ذي تمائم محول إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق و تحتي شقها لم يحولو قوله
سموت إليها بعد ما نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال فقالت لحاك الله إنك فاضحي أ لست ترى السمار و الناس أحوالي فقلت لها تالله أبرح قاعدا و لو قطعوا رأسي لديك و أوصال شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 171فلما تنازعنا الحديث و أسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال فصرنا إلى الحسنى و رق كلامنا و رضت فذلت صعبة أي إذلال حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما إن من حديث و لا صالي فأصبحت معشوقا و أصبح بعلها عليه القتام كاسف الوجه و او قوله في اللامية الأولى(21/121)
و بيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل تخطيت أبوابا إليها و معشرا علي حراصا لو يسرون مقتلي فجئت و قد نضت لنوم ثيابها لدى الستر إلا لبسة المتفضل فقالت يمين الله ما لك حيلة و ما إن أرى عنك الغواية تنجلي فقمت بها أمشي نجر وراءنا على إثرنا أذيرط مرجل فلما أجزنا ساحة الحي و انتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل هصرت بفودي رأسها فتمايلت علي هضيم الكشح ريا المخلخو قوله
فبت أكابد ليل التمام و القلب من خشية مقشعرفلما دنوت تسديتها فثوبا نسيت و ثوابا أجرو لم يرنا كالئ كاشح و لم يبد منا لدى البيت سرو قد رابني قولها يا هناه ويحك ألحقت شرا بشر
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 172و قولهتقول و قد جردتها من ثيابها كما رعت مكحول المدامع أتلعالعمرك لو شي ء أتانا رسوله سواك و لكن لم نجد لك مدفعافبتنا نصد الوحش عنا كأننا قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعاتجافى عن المأثور بيني و بينها و تدني علي السابري المضلعاو في شعر إمرئ القيس من هذا الفن كثير فمن أراده فليطلبه من مجموع شعره
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 465173وَ قَالَ ع أَلَا حُرٌّ يَدَعُ هَذِهِ اللُّمَاظَةَ لِأَهْلِهَا إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَااللماظة بفتح اللام ما تبقى في الفم من الطعام قال يصف الدنيا
لماظة أيام كأحلام نائم
و لمظ الرجل يلمظ بالضم لمظا إذا تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه و أخرج لسانه فمسح به شفتيه و كذلك التلمظ يقال تلمظت الحية إذا أخرجت لسانها كما يتلمظ الآكل. و قال ألا حر مبتدأ و خبره محذوف أي في الوجود و ألا حرف قال
ألا رجل جزاه الله خيرا يدل على محصلة تبيت(21/122)
ثم قال إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها من الناس من يبيع نفسه بالدراهم و الدنانير و من الناس من يبيع نفسه بأحقر الأشياء و أهونها و يتبع هواه فيهلك و هؤلاء في الحقيقة أحمق الناس إلا أنه قد رين على القلوب فغطتها الذنوب و أظلمت الأنفس بالجهل و سوء العادة و طال الأمد أيضا على القلوب فقست و لو أفكر الإنسان حق الفكر لما باع نفسه إلا بالجنة لا غير
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 466174وَ قَالَ ع مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَ طَالِبُ دُنْيَاتقول نهم فلان بكذا فهو منهوم أي مولع به و هذه الكلمة
مروية عن النبي ص منهومان لا يشبعان منهوم بالمال و منهوم بالعلم
و النهم بالفتح إفراط الشهوة في الطعام تقول منه نهمت إلى الطعام بكسر الهاء أنهم فأنا نهم و كان في القرآن آية أنزلت ثم رفعت لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب و يتوب الله على من تاب. فأما طالب العلم العاشق له فإنه لا يشبع منه أبدا و كلما استكثر منه زاد عشقه له و تهالكه عليه مات أبو عثمان الجاحظ و الكتاب على صدره. و كان شيخنا أبو علي رحمه الله في النزع و هو يملي على ابنه أبي هاشم مسائل في علم الكلام و كان القاضي أحمد بن أبي دواد يأخذ الكتاب في خفه و هو راكب فإذا جلس في دار الخليفة اشتغل بالنظر فيه إلى أن يجلس الخليفة و يدخل إليه و قيل ما فارق ابن أبي دواد الكتاب قط إلا في الخلاء و أعرف أنا في زماننا من مكث نحو خمس سنين لا ينام إلا وقت السحر صيفا و شتاء مكبا على كتاب صنفه و كانت وسادته التي ينام عليها الكتاب(21/123)