شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 379كان للعرب كاهنان اسم أحدهما شق و كان نصف إنسان و اسم الآخر سطيح و كان يطوى طي الحصير و يتكلمان بكل أعجوبة في الكهانة فقال ابن الروميلك رأي كأنه رأي شق و سطيح قريعي الكهان يستشف الغيوب عما تواري بعيون جلية الإنسانو قال أبو عثمان الجاحظ كان مسيلمة قبل أن يتنبأ يدور في الأسواق التي كانت بين دور العرب و العجم كسوق الأبلة و سوق بقة و سوق الأنبار و سوق الحيرة يلتمس تعلم الحيل و النيرنجيات و احتيالات أصحاب الرقى و العزائم و النجوم و قد كان أحكم علم الحزاة و أصحاب الزجر و الخط فعمد إلى بيضة فصب إليها خلا حاذقا قاطعا فلانت حتى إذا مدها الإنسان استطالت و دقت كالعلك ثم أدخلها قارورة ضيقة الرأس و تركها حتى انضمت و استدارت و جمدت فعادت كهيئتها الأولى فأخرجها إلى قوم و هم أعراب و استغواهم بها و فيه قيل
ببيضة قارور و راية شادن و توصيل مقطوع من الطير حاذق
قالوا أراد براية الشادن التي يعملها الصبي من القرطاس الرقيق و يجعل لها ذنبا و جناحين و يرسلها يوم الريح بخيط طويل. كان مسيلمة يعمل رايات من هذا الجنس و يعلق فيها الجلاجل و يرسلها ليلا في شدة الريح و يقول هذه الملائكة تنزل علي و هذه خشخشة الملائكة و زجلها و كان يصل جناح الطير المقصوص بريش معه فيطير و يستغوي به الأعراب. شاعر في الطيرة شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 38و أمنع الياسمين الغض من حذري عليك إذ قيل لي نصف اسمه ياس
و قال آخر
أهدت إليه سفرجلا فتطيرا منه و ظل مفكرا مستعبراخوف الفراق لأن شطر هجائه سفر و حق له بأن يتطيرا
و قال آخر
يا ذا الذي أهدى لنا سوسنا ما كنت في إهدائه محسنانصف اسمه سو فقد ساءني يا ليت إني لم أر السوسنا
و مثله
لا تراني طوال دهري أهوى الشقائقاإن يكن يشبه الخدود فنصف اسمه شقا
و كانوا يتفاءلون بالآس لدوامه و يتطيرون من النرجس لسرعة انقضائه و يسمونه الغدار. و قال العباس بن الأحنف(20/227)
إن الذي سماك يا منيتي بالنرجس الغدار ما أنصفالو أنه سماك بالآسة وفيت إن الآس أهل الوفا
خرج كثير يريد عزة و معه صاحب له من نهد فرأى غرابا ساقطا فوق بانة ينتف ريشه فقال له النهدي إن صدق الطير فقد ماتت عزة فوافى أهلها و قد أخرجوا جنازتها فقال
و ما أعيف النهدي لا در دره و أزجره للطير لا عز ناصره رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ينتف أعلى ريشه و يطايره شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 381فقال غراب لاغتراب و بانة لبين و فقد من حبيب تعاشرو قال الشاعر
و سميته يحيى ليحيا و لم يكن إلى رد حكم الله فيه سبيل تيممت فيه الفأل حين رزقته و لم أدر أن الفأل فيه يفيلفأما القول في السحر فإن الفقهاء يثبتونه و يقولون فيه القود و قد جاء في الخبر أن رسول الله ص سحره لبيد بن أعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه عمل الشي ء و لم يعمله. و روي أن امرأة من يهود سحرته بشعر و قصاص ظفر و جعلت السحر في بئر و أن الله تعالى دله على ذلك فبعث عليا ع فاستخرجه و قتل المرأة
و قوم من المتكلمين ينفون هذا عنه ع و يقولون إنه معصوم من مثله. و الفلاسفة تزعم أن السحر من آثار النفس الناطقة و أنه لا يبعد أن يكون في النفوس نفس تؤثر في غير بدنها المرض و الحب و البغض و نحو ذلك و أصحاب الكواكب يجعلون للكواكب في ذلك تأثيرا و أصحاب خواص الأحجار و النبات و غيرها يسندون ذلك إلى الخواص و كلام أمير المؤمنين ع دال على تصحيح ما يدعى من السحر. و أما العدوى
فقد قال رسول الله ص لا عدوى في الإسلام
وقال لمن قال أعدى بعضها بعضا يعني الإبل فمن أعدى الأول
و قال لا عدوى و لا هامة و لا صفر
فالعدوى معروفة و الهامة ما كانت العرب تزعمه في المقتول شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 382لا يؤخذ بثأره و الصفر ما كانت العرب تزعمه من الحية في البطن تعض عند الجوعنكت في مذاهب العرب و تخيلاتها(20/228)
و سنذكر هاهنا نكتا ممتعة من مذاهب العرب و تخيلاتها لأن الموضع قد ساقنا إليه أنشد هشام بن الكلبي لأمية بن أبي الصلت
سنة أزمة تبرح بالناس ترى للعضاة فيها صريرالا على كوكب تنوء و لا ريح جنوب و لا ترى طحروراو يسقون باقر السهل للطود مهازيل خشية أن تبوراعاقدين النيران في ثكن الأذناب منها لكي تهيج البحوراسلع ما و مثله عشر ما عامل ما و عالت البيقورا
يروى أن عيسى بن عمر قال ما أدري معنى هذا البيت و يقال إن الأصمعي صحف فيه فقال و غالت البيقورا بالغين المعجمة و فسره غيره فقال عالت بمعنى أثقلت البقر بما حملتها من السلع و العشر و البيقور البقر و عائل غالب أو مثقل و كانت العرب إذا أجدبت و أمسكت السماء عنهم و أرادوا أن يستمطروا عمدوا إلى السلع و العشر فحزموهما و عقدوهما في أذناب البقر و أضرموا فيها النيران و أصعدوها في جبل وعر و اتبعوها يدعون الله و يستسقونه و إنما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار و كانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات و قال أعرابي
شفعنا ببيقور إلى هاطل الحيا فلم يغن عنا ذاك بل زادنا جدبافعدنا إلى رب الحيا فأجارنا و صير جدب الأرض من عنده خصبا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 383و قال آخرقل لبني نهشل أصحاب الحور أ تطلبون الغيث جهلا بالبقرو سلع من بعد ذاك و عشر ليس بذا يجلل الأرض المطر
و يمكن أن يحمل تفسير الأصمعي على محمل صحيح فيقال غالت بمعنى أهلكت يقال غاله كذا و اغتاله أي أهلكه و غالتهم غول يعني المنية و منه الغضب غول الحلم. و قال آخر
لما كسونا الأرض أذناب البقر بالسلع المعقود فيها و العشر
و قال آخر
يا كحل قد أثقلت أذناب البقر بسلع يعقد فيها و عشرفهل تجودين ببرق و مطر
و قال آخر يعيب العرب بفعلهم هذا
لا در در رجال خاب سعيهم يستمطرون لدى الإعسار بالعشرأ جاعل أنت بيقورا مسلعة ذريعة لك بين الله و المطر(20/229)
و قال بعض الأذكياء كل أمة قد تحذو في مذاهبها مذاهب ملة أخرى و قد كانت الهند تزعم أن البقر ملائكة سخط الله عليها فجعلها في الأرض و أن لها عنده حرمة و كانوا يلطخون الأبدان بأخثائها و يغسلون الوجوه ببولها و يجعلونها مهور نسائهم و يتبركون بها في جميع أحوالهم فلعل أوائل العرب حذوا هذا الحذو و انتهجوا هذا المسلك شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 384و للعرب في البقر خيال آخر و ذلك أنهم إذا أوردوها فلم ترد ضربوا الثور ليقتحم الماء فتقتحم البقر بعده و يقولون إن الجن تصد البقر عن الماء و إن الشيطان يركب قرني الثور و قال قلهم
إني و قتلي سليكا حين أعقله كالثور يضرب لما عافت البقر
و قال نهشل بن حري
كذاك الثور يضرب بالهراوى إذا ما عافت البقر الظماء
و قال آخر
كالثور يضرب للورود إذا تمنعت البقر
فإن كان ليس إلا هذا فليس ذاك بعجيب من البقر و لا بمذهب من مذاهب العرب لأنه قد يجوز أن تمتنع البقر من الورود حتى يرد الثور كما تمتنع الغنم من سلوك الطرق أو دخول الدور و الأخبية حتى يتقدمها الكبش أو التيس و كالنحل تتبع اليعسوب و الكراكي تتبع أميرها و لكن الذي تدل عليه أشعارها أن الثور يرد و يشرب و لا يمتنع و لكن البقر تمتنع و تعاف الماء و قد رأت الثور يشرب فحينئذ يضرب الثور مع إجابته إلى الورود فتشرب البقر عند شربه و هذا هو العجب قال الشاعر
فإني إذن كالثور يضرب جنبه إذا لم يعف شربا و عافت صواحبه
و قال آخر
فلا تجعلوني كالبقير و فحلها يكسر ضربا و هو للورد طائع و ما ذنبه إن لم يرد بقراته و قد فاجأتها عند ذاك الشرائع شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 385و قال الأعشىلكالثور و الجني يضرب وجهه و ما ذنبه إن عافت الماء مشرباو ما ذنبه إن عافت الماء باقر و ما إن يعاف الماء إلا ليضربا(20/230)
قالوا في تفسيره لما كان امتناعها يتعقبه الضرب حسن أن يقال عافت الماء لتضرب و هذه اللام هي لام العاقبة كقوله لدوا للموت و على هذا فسر أصحابنا قوله سبحانه وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ. و من مذاهب العرب أيضا تعليق الحلي و الجلاجل على اللديغ يرون أنه يفيق بذلك و يقال إنه إنما يعلق عليه لأنهم يرون أنه إن نام يسري السم فيه فيهلك فشغلوه بالحلي و الجلاجل و أصواتها عن النوم و هذا قول النضر بن شميل و بعضهم يقول إنه إذا علق عليه حلي الذهب برأ و إن علق الرصاص أو حلي الرصاص مات. و قيل لبعض الأعراب أ تريدون شهرة فقال إن الحلي لا تشهر و لكنها سنة ورثناها. و قال النابغة
فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع يسهد من ليل التمام سليمها لحلي النساء في يديه قعاقعو قال بعض بني عذرة
كأني سليم ناله كلم حية ترى حوله حلي النساء مرصعا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 386و قال آخرو قد عللوا بالبطل في كل موضع و غروا كما غر السليم الجلاجل
و قال جميل و ظرف في قوله و لو قاله العباس بن الأحنف لكان ظريفا
إذا ما لديغ أبرأ الحلي داءه فحليك أمسى يا بثينة دائيا
و قال عويمر النبهاني و هو يؤكد قول النضر بن شميل
فبت معنى بالهموم كأنني سليم نفى عنه الرقاد الجلاجل
و مثله قول الآخر
كأني سليم سهد الحلي عينه فراقب من ليل التمام الكواكبا
و يشبه مذهبهم في ضرب الثور مذهبهم في العر يصيب الإبل فيكوى الصحيح ليبرأ السقيم و قال النابغة
و كلفتني ذنب امرئ و تركته كذي العر يكوى غيره و هو راتع
و قال بعض الأعراب
كمن يكوى الصحاح يروم برءا به من كل جرباء الإهاب(20/231)