هذا يصلح أن تجعله الإمامية شرح حال الأئمة المعصومين على مذاهبهم لقوله فوق ما يرجون بهم علم الكتاب و به علموا و أما نحن فنجعله شرح حال العلماء العارفين و هم أولياء الله الذين ذكرهم ع لما نظر الناس إلى ظاهر الدنيا و زخرفها من المناكح و الملابس و الشهوات الحسية نظروا هم إلى باطن الدنيا فاشتغلوا بالعلوم و المعارف و العبادة و الزهد في الملاذ الجسمانية فأماتوا من شهواتهم و قواهم المذمومة كقوة الغضب و قوة الحسد ما خافوا أن يميتهم و تركوا من الدنيا اقتناء الأموال لعلمهم أنها ستتركهم و أنه لا يمكن دوام الصحبة معها فكان استكثار الناس من تلك الصفات استقلالا عندهم و بلوغ الناس لها فوتا أيضا عندهم فهم خصم لما سالمه الناس شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 78من الشهوات و سلم لما عاداه الناس من العلوم و العبادات و بهم علم الكتاب لأنه لولاهم لما عرف تأويل الآيات المتشابهات و لأخذ الناس على ظواهرها فضلوا و بالكتاب علموا لأن الكتاب دل عليهم و نبه الناس على مواضعهم نحو قوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. و قوله هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. و قوله وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. و نحو ذلك من الآيات التي تنادي عليهم و تخطب بفضلهم و بهم قام الكتاب لأنهم قرروا البراهين على صدقه و صحة وروده من الله تعالى على لسان جبريل ع و لولاهم لم يقم على ذلك دلالة للعوام و بالكتاب قاموا أي باتباع أوامر الكتاب و آدابه قاموا لأنه لو لا تأدبهم بآداب القرآن و امتثالهم أوامره لما أغنى عنهم علمهم شيئا بل كان وباله عليهم ثم قال إنهم لا يرون مرجوا فوق ما يرجون و لا مخوفا فوق ما يخافون و كيف لا يكونون كذلك و مرجوهم مجاورة الله تعالى في حظائر قدسه و هل فوق هذا مرجو لراج و مخوفهم سخط الله عليهم و إبعادهم عن جنابه و هل فوق هذا مخوف لخائف(21/54)
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 44279وَ قَالَ ع اذْكُرُوا انْقِطَاعَ اللَّذَّاتِ وَ بَقَاءَ التَّبِعَاتِقد تقدم القول في نحو هذا مرارا و قال الشاعر
تفنى اللذاذة ممن نال بغيته من الحرام و يبقى الإثم و العارتبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
و راود رجل امرأة عن نفسها فقالت له إن امرأ يبيع جنة عرضها السموات و الأرض بمقدار إصبعين لجاهل بالمساحة فاستحيا و رجع شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 44380وَ قَالَ ع اخْبُرْ تَقْلِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى و من الناس من يروي هذا لرسول الله ص و مما يقوي أنه من كلام أمير المؤمنين ما حكاه ثعلب قال حدثنا ابن الأعرابي قال قال المأمون لو لا أن عليا ع قال اخبر تقله لقلت أنا اقله تخبر
المعنى اختبر الناس و جربهم تبغضهم فإن التجربة تكشف لك مساويهم و سوء أخلاقهم فضرب مثلا لمن يظن به الخير و ليس هناك فأما قول المأمون لو لا أن عليا قاله لقلت اقله تخبر فليس المراد حقيقة القلى و هو البغض بل المراد الهجر و القطيعة يقول قاطع أخاك مجربا له هل يبقى على عهدك أم ينقضه و يحوله عنك. و من كلام عتبة بن أبي سفيان طيروا الدم في وجوه الشباب فإن حلموا و أحسنوا الجواب فهم هم و إلا فلا تطمعوا فيهم يقول أغضبوهم لأن الغضبان يحمر وجهه فإن ثبتوا لذلك الكلام المغضب و حلموا و أجابوا جواب الحليم العاقل فهم ممن يعقد عليه الخنصر و يرجى فلاحه و إن سفهوا و شتموا و لم يثبتوا لذلك الكلام فلا رجاء لفلاحهم و من المعنى الأول قول أبي العلاء شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 8جربت دهري و أهليه فما تركت لي التجارب في ود امرئ غرضا
و قال آخر
و كنت أرى أن التجارب عدة فخانت ثقات الناس حتى التجارب
و قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
رأيت فضيلا كان شيئا ملففا فأبرزه التمحيص حتى بدا ليا
آخر
عتبت على سلم فلما فقدته و جربت أقواما رجعت إلى سلم
مثله(21/55)
ذممتك أولا حتى إذا ما بلوت سواك عاد الذم حمداو لم أحمدك من خير و لكن وجدت سواك شرا منك جدافعدت إليك مضطرا ذليلا لأني لم أجد من ذاك بداكمجهود تحامى أكل ميت فلما اضطر عاد إليه شدا
الذي يتعلق به غرضنا من الأبيات هو البيت الأول و ذكرنا سائرها لحسنها
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 44482وَ قَالَ ع مَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ الشُّكْرِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الزِّيَادَةِ وَ لَا لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ الدُّعَاءِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْإِجَابَةِ وَ لَا لِيَفْحَ عَلَيْهِ بَابَ التَّوْبَةِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْمَغْفِرَةِ
قد تقدم القول في الشكر و اقتضائه الزيادة و اقتضاء الدعاء الإجابة و التوبة المغفرة على وجه الاستقصاء في الجميع
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 44583وَ قَالَ ع أَوْلَى النَّاسِ بِالْكَرَمِ مَنْ عَرَّقَتْ فِيهِ الْكِرَامُأعرقت و عرقت في هذا الموضع بمعنى أي ضربت عروقه في الكرم أي له سلف و آباء كرام و قال المبرد أنشدني أبو محلم السعدي
إنا سألنا قومنا فخيارهم من كان أفضلهم أبوه الأفضل أعطى الذي أعطى أبوه قبله و تبخلت أبناء من يتبخلقال و أنشدني أيضا في المعنى
لطلحة بن خثيم حين تسأله أندى و أكرم من فند بن هطال و بيت طلحة في عز و مكرمة و بيت فند إلى ربق و أحمال أ لا فتى من بني ذبيان يحملني و ليس يحملني إلا ابن حمال فقلت طلحة أولى من عمدت له و جئت أمشي إليه مشي مختال مستيقنا أن حبلي سوف يعلقه في رأس ذيالة أو ريال
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 84و قال آخرعند الملوك مضرة و منافع و أرى البرامك لا تضر و تنفع إن العروق إذا استسر بها الثرى أثرى النبات بها و طاب المزرع و إذا جهلت من امرئ أعراقه و قديمه فانظر إلى ما يصنو قال آخر
إن السري إذا سرى فبنفسه و ابن السري إذا سرى أسراهما
و قال البحتري(21/56)
و أرى النجابة لا يكون تمامها لنجيب قوم ليس بابن نجيب
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 44685وَ سُئِلَ ع أَيُّمَا أَفْضَلُ الْعَدْلُ أَوِ الْجُودُ فَقَالَ الْعَدْلُ يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا وَ الْجُودُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِهَتِهَا وَ الْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ وَ الْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌّ فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَوَ أَفْضَلُهُمَا
هذا كلام شريف جليل القدر فضل ع العدل بأمرين أحدهما أن العدل وضع الأمور مواضعها و هكذا العدالة في الاصطلاح الحكمي لأنها المرتبة المتوسطة بين طرفي الإفراط و التفريط و الجود يخرج الأمر من موضعه و المراد بالجود هاهنا هو الجود العرفي و هو بذل المقتنيات للغير لا الجود الحقيقي لأن الجود الحقيقي ليس يخرج الأمر من جهته نحو جود البارئ تعالى. و الوجه الثاني أن العدل سائس عام في جميع الأمور الدينية و الدنيوية و به نظام العالم و قوام الوجود و أما الجود فأمر عارض خاص ليس عموم نفعه كعموم نفع العدل
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 44786وَ قَالَ ع النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُواهذه من ألفاظه الشريفة التي لا نظير لها و قد تقدم ذكرها و ذكر ما يناسبها و كان يقال من جهل شيئا عاداه. و قال الشاعر
جهلت أمرا فأبديت النكير له و الجاهلون لأهل العلم أعداء
و قيل لأفلاطون لم يبغض الجاهل العالم و لا يبغض العالم الجاهل فقال لأن الجاهل يستشعر النقص في نفسه و يظن أن العالم يحتقره و يزدريه فيبغضه و العالم لا نقص عنده و لا يظن أن الجاهل يحتقره فليس عنده سبب لبغض الجاهل
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 44887وَ قَالَ ع الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ مَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالآْتِي فَدْ أَخَذَ الزُّهْدَ بِطَرَفَيْهِ(21/57)
قد تقدم القول في هذين المعنيين بما فيه كفاية
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 44988وَ قَالَ ع الْوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِأي تعرف الرجال بها كما تعرف الخيل بالمضمار و هو الموضع أو المدة التي تضمر فيها الخيل فمن الولاة من يظهر منه أخلاق حميدة و منهم من يظهر منه أخلاق ذميمة و قال الشاعر
سكرات خمس إذا مني المرء بها صار عرضة للزمان سكرة المال و الحداثة و العشق و سكر الشراب و السلطانو قال آخر
يا ابن وهب و المرء في دولة السلطان أعمى ما دام يدعى أميرافإذا زالت الولاية عنه و استوى بالرجال عاد بصيرا
و قال البحتري
و تاه سعيد أن أعير رئاسة و قلد أمرا كان دون رجاله و ضاق على حقي بعقب اتساعه فأوسعته عذرا لضيق احتماله فأدبر عني عند إقبال حظه و غير حالي عنده حسن حاله فليت أبا عثمان أمسك تيهه كإمساكه عند الحقوق بما شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 45089وَ قَالَ ع مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِهذه الكلمة قد سبقت و تكلمنا عليها و ما أحسن قول المعري
ما قضى الحاجات إلا شمل نومه فوق فراش من نمال
و قال الرضي رحمه الله
عليها أخامس مثل الصقور طوال الرجاء جسام الأرب و كل فتى حظ أجفانه من النوم مضمضة يستلب فبينا يقال كرى جفنه بقطع من الليل إذ قيل ه شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 45190وَ قَالَ ع لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ خَيْرُ الْبِلَادِ مَا حَمَلَكَهذا المعنى قد قيل كثيرا و من ذلك قول الشاعر
لا يصدفنك عن أمر تحاوله فراق أهل و أحباب و جيران تلقى بكل ديار ما حللت بها أهلا بأهل و أوطانا بأوطانو قال شيخي أبو جعفر يحيى بن أبي زيد نقيب البصرة
أنسيتني بلدي و أرض عشيرتي و نزلت من نعماك أكرم منزل و أخذت فيك مدائحي فكأنها في آل شماس مدائح جرولأبو عبادة البحتري
في نعمة أوطأتها و أقمت في أكنافها فكأنني في منبج
و منبج هي مدينة البحتري أبو تمام(21/58)