الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهى المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان و لربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأقران لو لا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان و لما تفاضلت النفوس و دبرت أيدي الكماة عوالي المذكر المأمون ولد علي ع فقال خصوا بتدبير الآخرة و حرموا تدبير الدنيا. كان يقال إذا كان الهوى مقهورا تحت يد العقل و العقل مسلط عليه صرفت مساوئ صاحبه إلى المحاسن فعدت بلادته حلما و حدته ذكاء و حذره بلاغة و عية صمتا و جبنه حذرا و إسرافه جودا. شرح نهج البلاغة : 20 ص : 44و ذكر هذا الكلام عند بعضهم فقال هذه خصيصة الحظ نقلها مرتب هذا الكلام إلى العقل. سمع محمد بن يزداد كاتب المأمون قول الشاعر
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
فأضاف إليه
و إن كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا فإن فساد العزم أن يتفندا
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 41645وَ قَالَ ع مَنْ صَارَعَ الْحَقَّ صَرَعَهُهذا مثل قوله في موضع آخر من أبدى صفحته للحق هلك و نحو هذا قول الطائي
و من قامر الأيام عن ثمراتها فأحج بها أن تنجلي و لها القمر
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 41746وَ قَالَ ع الْقَلْبُ مُصْحَفُ الْبَصَرِهذا مثل قول الشاعر
تخبرني العينان ما القلب كاتم و ما جن بالبغضاء و النظر الشزر
يقول ع كما أن الإنسان إذا نظر في المصحف قرأ ما فيه كذلك إذا أبصر الإنسان صاحبه فإنه يرى قلبه بوساطة رؤية وجهه ثم يعلم ما في قلبه من حب و بغض و غيرهما كما يعلم برؤية الخط الذي في المصحف ما يدل الخط عليه. و قال الشاعر
إن العيون لتبدي في تقلبها ما في الضمائر من ود و من حنق(21/34)


شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 41847وَ قَالَ ع التُّقَى رَئِيسُ الْأَخْلَاقِيعني رئيس الأخلاق الدينية لأن الأخلاق الحميدة كالجود و الشجاعة و الحلم و العفة و غير ذلك لو قدرنا انتفاء التكاليف العقلية و الشرعية لم يكن التقى رئيسا لها و إنما رئاسة التقى لها مع ثبوت التكليف لا سيما الشرعي و التقى في الشرع هو الورع و الخوف من الله و إذا حصل حصلت الطاعات كلها و انتفت القبائح كلها فصار الإنسان معصوما و تلك طبقة عالية و هي أشرف من جميع الطبقات التي يمدح بها الإنسان نحو قولنا جواد أو شجاع أو نحوهما لأنها طبقة ينتقل الإنسان منها إلى الجنة و دار الثواب الدائم و هذه مزية عظيمة يفضل بها على سائر طبقات الأخلاق
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 41948وَ قَالَ ع لَا تَجْعَلَنَّ ذَرَبَ لِسَانِكَ عَلَى مَنْ أَنْطَقَكَ وَ بَلَاغَةَ قَوْلِكَ عَلَى مَنْ سَدَّدَكَيقول لا شبهة أن الله تعالى هو الذي أنطقك و سدد لفظك و علمك البيان كما قال سبحانه خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ فقبيح أن يجعل الإنسان ذرب لسانه و فصاحة منطقه على من أنطقه و أقدره على العبادة و قبيح أن يجعل الإنسان بلاغة قوله على من سدد قوله و جعله بليغا حسن التعبير على المعاني التي في نفسه و هذا كمن ينعم على إنسان بسيف فإنه يقبح منه أن يقتله بذلك السيف ظلما قبحا زائدا على ما لو قتله بغير ذلك السيف و ما أحسن قول المتنبي في سيف الدولة
و لما كسا كعبا ثيابا طغوا بها رمى كل ثوب من سنان بخارق و ما يوجع الحرمان من كف حازم كما يوجع الحرمان من كف رازق شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 42049وَ قَالَ ع كَفَاكَ أَدَباً لِنَفْسِكَ اجْتِنَابُ مَا تَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِكَقد قال ع هذا اللفظ أو نحوه مرارا و قد تكلمنا نحن عليه و ذكرنا نظائر له كثيرة نثرا و نظما. و كتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك في حال اقتضت ذلك(21/35)


ما على ذا افترقنا بشبذان إذ كنا و لا هكذا عهدنا الإخاءتضرب الناس بالمهندة البيض على غدرهم و تنسى الوفاء
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 42150وَ قَالَ ع يُعَزِّي قَوْماً مَنْ صَبَرَ صَبْرَ الْأَحْرَارِ وَ إِلَّا سَلَا سُلُوَّ الْأَغْمَارِ وَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ ع قَالَ لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مُعَزِّياً عَنِ ابْنٍ لَهُ إِنْ صَبَرْتَ صَبْرَ الْأَكَارِمِ وَِلَّا سَلَوْتَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ
أخذ هذا المعنى أبو تمام بل حكاه فقال
و قال علي في التعازي لأشعث و خاف عليه بعض تلك المآثم أ تصبر للبلوى عزاء و حسبة فتؤجر أم تسلو سلو البهائم شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 42251وَ قَالَ ع فِي صِفَةِ الدُّنْيَا الدُّنْيَا تَغُرُّ وَ تَضُرُّ وَ تَمُرُّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرْضَهَا ثَوَاباً لِأَوْلِيَائِهِ وَ لَا عِقَاباً لِأَعْدَائِهِقد تقدم لنا كلام طويل في ذم الدنيا و من الكلام المستحسن قوله تغر و تضر و تمر و الكلمة الثانية أحسن و أجمل. و(21/36)


قرأت في بعض الآثار أن عيسى ع مر بقرية و إذا أهلها موتى في الطرق و الأفنية فقال للتلامذة إن هؤلاء ماتوا عن سخطة و لو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا فقالوا يا سيدنا وددنا أنا علمنا خبرهم فسأل الله تعالى فقال له إذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل أشرف على نشز ثم ناداهم فأجابه مجيب فقال ما حالكم و ما قصتكم فقال بتنا في عافية و أصبحنا في الهاوية قال و كيف ذلك قال لحبنا الدنيا قال كيف كان حبكم لها قال حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرح بها و إذا أدبرت حزن عليها و بكى قال فما بال أصحابك لم يجيبوني قال لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال فكيف أجبتني أنت من بينهم قال لأني كنت فيهم و لم أكن منهم فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أنجو منها أكبكب فيها فقال المسيح لتلامذته لأكل خبز الشعير بالملح الجريش و لبس المسوح و النوم على المزابل و سباخ الأرض في حر الصيف كثير مع العافية من عذاب الآخرة
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 42352وَ إِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا كَرَكْبٍ بَيْنَا هُمْ حَلُّوا إِذْ صَاحَ بِهِمْ سَائِقُهُمْ فَارْتَحَلُواروي بيناهم حلول و بينا هي بين نفسها و وزنها فعلى أشبعت فتحة النون فصارت ألفا ثم قالوا بينما فزادوا ما و المعنى واحد تقول بينا نحن نفعل كذا جاء زيد أي بين أوقات فعلنا كذا جاء زيد و الجمل قد يضاف إليها أسماء الزمان نحو قولهم أتيتك زمن الحجاج أمير ثم حذفوا المضاف الذي هو أوقات و ولي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام المحذوف. و كان الأصمعي يخفض بعد بينا إذا صلح في موضعه بين و ينشد قول أبي ذؤيب بالكسر
بينا تعنقه الكماة و روغه يوما أتيح له جري سلفع
و غيره يرفع ما بعد بينا و بينما على الابتداء و الخبر فأما إذ و إذا فإن أكثر أهل العربية يمنعون من مجيئهما بعد بينا و بينما و منهم من يجيزه و عليه جاء كلام أمير المؤمنين و أنشدوا(21/37)


بينما الناس على عليائها إذ هووا في هوة منها فغاروا
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 53و قالت الحرقة بنت النعمان بن المنذرو بينا نسوس الناس و الأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
و قال الشاعر
أستقدر الله خيرا و أرضين به فبينما العسر إذ دارت مياسيرو بينما المرء في الأحياء مغتبط إذ صار في اللحد تعفوه الأعاصير
و مما جاء في وصف الدنيا مما يناسب كلام أمير المؤمنين قول أبي العتاهية
إن دارا نحن فيها لدار ليس فيها لمقيم قراركم و كم قد حلها من أناس ذهب الليل بهم و النهارفهم الركب قد أصابوا مناخا فاسترحوا ساعة ثم سارواو كذا الدنيا على ما رأينا يذهب الناس و تخلو الديار
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 42454وَ قَالَ ع لِابْنِهِ الْحَسَنِ ع يَا بُنَيَّ لَا تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ وَ إِمَّا جُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَ يُرْوَى هَذَا الْكَلَامُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَ هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الَّذِي فِي يَدَيْكَ مِنَ الدُّنْيَا قَدْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَكَ وَ هُوَ صَائِرٌ إِلَى أَهْلٍ بَعْدَكَ وَ إِنَّمَا أَنْتَ جَامِعٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ أَوْ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَهْلًا أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ أَوْ تَحْمِلَ لَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَارْجُ لِمَنْ مَضَى رَحْمَةَ اللَّهِ وَ لِمَنْ بَقِيَ رِزْقَ اللَّهِ تَعَالَى(21/38)

16 / 69
ع
En
A+
A-