محمود و حاش لله أن يكون ع ذكر من سلف من شيوخ المهاجرين إلا بالجميل و الذكر الحسن بموجب ما تقتضيه رئاسته في الدين و إخلاصه في طاعة رب العالمين و من أحب تتبع ما روي عنه مما يوهم في الظاهر خلاف ذلك فليراجع هذا الكتاب أعني شرح نهج البلاغة فأنا لم نترك موضعا يوهم خلاف مذهبنا إلا و أوضحناه و فسرناه على وجه يوافق الحق و بالله التوفيق
عمار بن ياسر و طرف من أخباره
فأما عمار بن ياسر رحمه الله فنحن نذكر نسبه و طرفا من حاله مما ذكره ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله هو عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن حصين بن لوذ بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر بن نام بن عنس بالنون بن مالك بن أدد العنسي المذحجي يكنى أبا اليقظان حليف لبني مخزوم كذا قال ابن شهاب و غيره. شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 36و قال موسى بن عقبة و ممن شهد بدرا عمار بن ياسر حليف لبني مخزوم بن يقظة. و قال الواقدي و طائفة من أهل العلم إن ياسرا والد عمار بن ياسر عربي قحطانمن عنس من مذحج إلا أن ابنه عمارا مولى لبني مخزوم لأن أباه ياسرا تزوج أمه لبعض بني مخزوم فأولدها عمارا و ذلك أن ياسر قدم مكة مع أخوين له يقال لهما الحارث و مالك في طلب أخ لهم رابع فرجع الحارث و مالك إلى اليمن و أقام ياسر بمكة فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها سمية بنت خياط فولدت له عمارا فأعتقه أبو حذيفة فصار ولاؤه لبني مخزوم و للحلف و الولاء الذي بين بني مخزوم و عمار بن ياسر كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق في بطنه و كسروا ضلعا من أضلاعه فاجتمعت بنو مخزوم و قالوا و الله لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان. قال أبو عمر و أسلم عمار و عبد الله أخوه و ياسر أبوهما و سمية أمهما و كان إسلامهم قديما في أول الإسلام(21/29)


فعذبوا في الله عذابا عظيما و
كان رسول الله ص يمر بهم و هم يعذبون فيقول صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة و يقول لهم أيضا صبرا يا آل ياسر اللهم اغفر لآل ياسر و قد فعلت
قال أبو عمر و لم يزل عمار مع أبي حذيفة بن المغيرة حتى مات و جاء الله بالإسلام. فأما سمية فقتلها أبو جهل طعنها بحربة في قبلها فماتت و كانت من الخيرات شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 37الفاضلات و هي أول شهيدة في الإسلام و قد كانت قريش أخذت ياسرا و سمية و ابنيهمو بلالا و خبابا و صهيبا فألبسوهم أدراع الحديد و صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ فأعطوهم ما سألوا من الكفر و سب النبي ص ثم جاء إلى كل واحد منهم قومه بأنطاع الأدم فيها الماء فألقوهم فيها ثم حملوا بجوانبها فلما كان العشي جاء أبو جهل فجعل يشتم سمية و يرفث ثم وجأها بحربة في قبلها فقتلها فهي أول من استشهد في الإسلام فقال عمار للنبي ص يا رسول الله بلغ العذاب من أمي كل مبلغ فقال صبرا يا أبا اليقظان اللهم لا تعذب أحدا من آل ياسر بالنار قال أبو عمر و فيهم أنزل إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. قال و هاجر عمار إلى أرض الحبشة و صلى القبلتين و شهد بدرا و المشاهد كلها و أبلى بلاء حسنا ثم شهد اليمامة فأبلى فيها أيضا و يومئذ قطعت أذنه. قال و ذكر الواقدي عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة و قد أشرف يصيح يا معشر المسلمين أ من الجنة تفرون أنا عمار بن ياسر هلموا إلي و أنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب و هو يقاتل أشد القتال. قال أبو عمر و كان عمار طويلا أشهل بعيد ما بين المنكبين قال و قد قيل في صفته كان آدم طوالا مضطربا أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين رجلا لا يغير شيبه. شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 38قال و كان عمار يقول أنا ترب رسول الله ص لم يكن أحد أقرب إليه سنا مني. قال و قتل عمار و هو(21/30)


ابن ثلاث و تسعين سنة و الخبر المرفوع مشهور في حقه تقتلك الفئة الباغية
و هو من دلائل نبوة رسول الله ص لأنه إخبار عن غيب. و
قال رسول الله ص في عمار ملئ إيمانا إلى مشاشه و يروى إلى أخمص قدميه
و فضائل عمار كثيرة و قد تقدم القول في ذكر عمار و أخباره و ما ورد في حقه
شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 41439وَ قَالَ ع مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ طَلَباً لِمَا عِنْدَ اللَّهِ وَ أَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ اتِّكَالًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُقد تقدم شرح مثل هذه الكلمة مرارا. و قال الشاعر
قنعت فأعتقت نفسي و لن أملك ذا ثروة رقهاو نزهتها عن سؤال الرجال و منة من لا يرى حقهاو إن القناعة كنز اللبيب إذا ارتتقت فتقت رتقهاسيبعث رزق الشفاه الغراث و خمص البطون الذي شقهافما فارقت مهجة جسمها لعمرك أو وفيت رزقهامواعيد ربك مصدوقة إذا غيرها ففقدت صدقها
سشرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 41540قَالَ ع مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ امْرَأً عَقْلًا إِلَّا لِيَسْتَنْقِذَهُ بِهِ يَوْماً مَالا بد أن يكون للبارئ تعالى في إيداع العقل قلب زيد مثلا غرض و لا غرض إلا أن يستدل به على ما فيه نجاته و خلاصه و ذلك هو التكليف فإن قصر في النظر و جهل و أخطأ الصواب فلا بد أن ينقذه عقله من ورطة من ورطات الدنيا و ليس يخلو أحد عن ذلك أصلا لأن كل عاقل لا بد أن يتخلص من مضرة سبيلها أن تنال بإعمال فكرته و عقله في الخلاص منها فالحاصل أن العقل إما أن ينقذ الإنقاذ الديني و هو الفلاح و النجاح على الحقيقة أو ينقذ من بعض مهالك الدنيا و آفاتها و على كل حال فقد صح قول أمير المؤمنين ع و قد رويت هذه الكلمة مرفوعة و رويت إلا استنقذه به يوما ما. و
عنه ص العقل نور في القلب يفرق به بين الحق و الباطل(21/31)


و عن أنس قال سئل رسول الله ص عن الرجل يكون حسن العقل كثير الذنوب فقال ما من بشر إلا و له ذنوب و خطايا يقترفها فمن كانت سجيته العقل و غريزته اليقين لم تضره ذنوبه قيل كيف ذلك يا رسول الله قال شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 41كلما أخطأ لم يلبث أن يتدارك ذلك بتو و ندامة على ما فرط منه فيمحو ذنوبه و يبقى له فضل يدخل به الجنة
نكت في مدح العقل و ما قيل فيه
و قد تقدم من قولنا في العقل و ما ذكر فيه ما فيه كفاية و نحن نذكر هاهنا شيئا آخر كان يقال العاقل يروي ثم يروي و يخبر ثم يخبر. و قال عبد الله بن المعتز ما أبين وجوه الخير و الشر في مرآة العقل.
لقمان يا بني شاور من جرب الأمور فإنه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء و تأخذه أنت بالمجان
أردشير بن بابك أربعة تحتاج إلى أربعة الحسب إلى الأدب و السرور إلى الأمن و القرابة إلى المودة و العقل إلى التجربة. الإسكندر لا تحتقر الرأي الجزيل من الحقير فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها. مسلمة بن عبد الملك ما ابتدأت أمرا قط بحزم فرجعت على نفسي بلائمة و إن كانت العاقبة علي و لا أضعت الحزم فسررت و إن كانت العاقبة لي. وصف رجل عضد الدولة بن بويه فقال لو رأيته لرأيت رجلا له وجه فيه ألف عين و فم فيه ألف لسان و صدر فيه ألف قلب. أثنى قوم من الصحابة على رجل عند رسول الله ص بالصلاة و العبادة و خصال الخير حتى بالغوا(21/32)


فقال ص كيف عقله قالوا يا رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 42نخبرك باجتهاده في العبادة و ضروب الخير و تسأل عن عقله فقال إن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم مما يصيبه الفاجر بفجوره و إنما ترتفع العباد غدا في درجاتهم و ينالون من الزلفى من ربهم على قدر عقولهمالريحاني العقل ملك و الخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها و سمع هذا الكلام أعرابي فقال هذا كلام يقطر عسله. قال معن بن زائدة ما رأيت قفا رجل إلا عرفت عقله قيل فإن رأيت وجهه قال ذا كتاب يقرأ. بعض الفلاسفة عقل الغريزة مسلم إلى عقل التجربة. بعضهم كل شي ء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا. قالوا في قوله تعالى لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا أي من كان عاقلا. و من كلامهم العاقل بخشونة العيش مع العقلاء آنس منه بلين العيش مع السفهاء. أعرابي لو صور العقل أظلمت معه الشمس و لو صور الحمق لأضاء معه اللل. قيل لحكيم متى عقلت قال حين ولدت فأنكروا ذلك فقال أما أنا فقد بكيت حين جعت و طلبت الثدي حين احتجت و سكت حين أعطيت يريد أن من عرف مقادير حاجته فهو عاقل. المأمون إذا أنكرت من عقلك شيئا فاقدحه بعاقل. بزرجمهر العاقل الحازم إذا أشكل عليه الرأي بمنزلة من أضل لؤلؤة فجمع ما حول مسقطها من التراب ثم التمسها حتى وجدها و كذلك العاقل يجمع وجوه شرح نهج البلاغة ج : 20 ص : 43الرأي في الأمر المشكل ثم يضرب بعضها في بعض حتى يستخلص الرأي الأصوب. كان يقال هجين عاقل خير من هجان جاهل. كان بعضهم إذا استشير قال لمشاوره أنظرني ح أصقل عقلي بنومة. إذا نزلت المقادير نزلت التدابير من نظر في المغاب ظفر بالمحاب من استدت عزائمه اشتدت دعائمه الرأي السديد أجدى من الأيد الشديد. بعضهم
و ما ألف مطرور السنان مشدد يعارض يوم الروع رأيا مسددا
أبو الطيب(21/33)

15 / 69
ع
En
A+
A-