شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 266فأما البكالي في نسب نوف فلا أعرفه. قوله أم رامق أي أم مستيقظ ترمق السماء و النجوم ببصرك. قوله قرضوا الدنيا أي تركوها و خلفوها وراء ظهورهم قال تعالى وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ أي تتركهم و تخلفهم شمالا و يقوالرجل لصاحبه هل مررت بمكان كذا يقول نعم قرضته ليلا ذات اليمين و أنشد لذي الرمة
إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف شمالا و عن أيمانهن الفوارس
قالوا مشرف و الفوارس موضعان يقول نظرت إلى ظعن يجزن بين هذين الموضعين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 102267إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَ حَدَّ لَكُمْ حُدُوداً فَلَا تَعْتَدُوهَا وَ نَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَ سَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَ لَمْ يَدَعْهَا نِسَاناً فَلَا تَتَكَلَّفُوهَا
قال الله تعالى لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ و
جاء في الأثر أبهموا ما أبهم الله
و قال بعض الصالحين لبعض الفقهاء لم تفرض مسائل لم تقع و أتعبت فيها فكرك حسبك بالمتداول بين الناس. قالوا هذا مثل قولهم في باب المسح على الخفين فإن مسح على خف من زجاج و نحو ذلك من النوادر الغريبة. و قال شريك في أبي حنيفة أجهل الناس بما كان و أعلمهم بما لم يكن. و قال عمر لا تتنازعوا فيما لم يكن فتختلفوا فإن الأمر إذا كان أعان الله عليه. و انتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل إما بارتكاب ما نهى عنه أو بالإخلال بما أمر به(19/215)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 103268لَا يَتْرُكُ النَّاسُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِاسْتِصْلَاحِ دُنْيَاهُمْ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُمثال ذلك إنسان يضيع وقت صلاة الفريضة عليه و هو مشتغل بمحاسبة وكيله و مخافته على ماله خوفا أن يكون خانه في شي ء منه فهو يحرص على مناقشته عليه فتفوته الصلاة. قال ع من فعل مثل هذا فتح الله عليه في أمر دنياه و ماله ما هو أضر عليه مما رام أن يستدركه بإهماله الفريضة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 104269رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَ عِلْمُهُ مَعَهُ لَمْ يَنْفَعْهُقد وقع مثل هذا كثيرا كما جرى لعبد الله بن المقفع و فضله مشهور و حكمته أشهر من أن تذكر و لو لم يكن له إلا كتاب اليتيمة لكفى
محنة المقفع(19/216)


و اجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد و سمع كل منهما كلام الآخر فسئل الخليل عنه فقال وجدت علمه أكثر من عقله و هكذا كان فإنه كان مع حكمته متهورا لا جرم تهوره قتله كتب كتاب أمان لعبد الله بن علي عم المنصور و يوجد فيه خطه فكان من جملته و متى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله أو أبطن غير ما أظهر أو تأول في شي ء من شروط هذا الأمان فنساؤه طوالق و دوابه حبس و عبيده و إماؤه أحرار و المسلمون في حل من بيعته فاشتد ذلك على المنصور لما وقف عليه و سأل من الذي كتب له الأمان فقيل له عبد الله بن المقفع كاتب عميك عيسى و سليمان اني علي بالبصرة فكتب المنصور إلى عامله بالبصرة سفيان بن معاوية يأمره بقتله و قيل بل قال أ ما أحد يكفيني ابن المقفع فكتب أبو الخصيب بها إلى شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 270سفيان بن معاوية المهلبي أمير البصرة يومئذ و كان سفيان واجدا على ابن المقفع لأنه كان يع به و يضحك منه دائما فغضب سفيان يوما من كلامه و افترى عليه فرد ابن المقفع عليه ردا فاحشا و قال له يا ابن المغتلمة و كان يمتنع و يعتصم بعيسى و سليمان ابني علي بن عبد الله بن العباس فحقدها سفيان عليه فلما كوتب في أمره بما كوتب اعتزم قتله فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع فأدخل ابن المقفع قبلهم و عدل به إلى حجرة في دهليزه و جلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاوية و عنده غلمانه و تنور نار يسجر فقال له سفيان أ تذكر يوم قلت لي كذا أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتله لم يقتل بها أحد ثم قطع أعضاءه عضوا عضوا و ألقاها في النار و هو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده ثم أطبق التنور عليه و خرج إلى الناس فكلمهم فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج فمضى و أخبر عيسى بن علي و أخاه سليمان بحاله فخاصما سفيان بن معاوية في أمره فجحد دخوله إليه فأشخصاه إلى المنصور و قامت(19/217)


البينة العادلة أن ابن المقفع دخل دار سفيان حيا سليما و لم يخرج منها فقال المنصور أنا أنظر في هذا الأمر إن شاء الله غدا فجاء سفيان ليلا إلى المنصور فقال يا أمير المؤمنين اتق الله في صنيعتك و متبع أمرك قال لا ترع و أحضرهم في غد و قامت الشهادة و طلب سليمان و عيسى القصاص فقال المنصور أ رأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب و أومأ إلى باب خلفه من ينصب لي نفسه حتى أقتله بسفيان فسكتوا و اندفع الأمر و أضرب عيسى و سليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها و ذهب دمه هدرا. قيل للأصمعي أيما كان أعظم ذكاء و فطنة الخليل أم ابن المقفع فقال كان ابن المقفع أفصح و أحكم و الخليل آدب و أعقل ثم قال شتان ما بين فطنة أفضت بصاحبها إلى القتل و فطنة أفضت بصاحبها إلى النسك و الزهد في الدنيا و كان الخليل قد نسك قبل أن يموت
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 105271لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الْإِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ وَ هُوَ الْقَلْبُ وَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ أَضْدَاداً مِنْ خِلَافِهَا فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعوَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ وَ إِنْ مَلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ وَ إِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ وَ إِنْ أَسْعَدَهُ الرِّضَا نَسِيَ التَّحَفُّظَ وَ إِنْ غَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحَذَرُ وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْأَمْرُ اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَضَحَهُ الْجَزَعُ وَ إِنْ أَفَادَ مَالًا أَطْغَاهُ الْغِنَى وَ إِنْ عَضَّتْهُ الْفَاقَةُ شَغَلَهُ الْبَلَاءُ وَ إِنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَتْ بِهِ الضَّعَةُ وَ إِنْ أَفْرَطَ بِهِ الشِّبَعُ كَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَ كُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ(19/218)


روي قعد به الضعف و النياط عرق علق به القلب من الوتين فإذا قطع مات صاحبه و يقال له النيط أيضا و البضعة بفتح الباء القطعة من اللحم و المراد بها هاهنا القلب و قال يعتور القلب حالات مختلفات متضادات فبعضها من الحكمة و بعضها و هو المضاد لها مناف للحكمة و لم يذكرها ع و ليست الأمور التي عددها شرحا لما قدمه من هذا الكلام المجمل و إن ظن قوم أنه أراد ذلك أ لا ترى أن الأمور التي عددها ليس فيها شي ء من باب الحكمة و خلافها. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 272فإن قلت فما مثال الحكمة و خلافها و إن لم يذكر ع مثاله. قلت كالشجافي القلب و ضدها الجبن و كالجود و ضده البخل و كالعفة و ضدها الفجور و نحو ذلك. فأما الأمور التي عددها ع فكلام مستأنف إنما هو بيان أن كل شي ء مما يتعلق بالقلب يلزمه لازم آخر نحو الرجاء فإن الإنسان إذا اشتد رجاؤه أذله الطمع و الطمع يتبع الرجاء و الفرق بين الطع و الرجاء أن الرجاء توقع منفعة ممن سبيله أن تصدر تلك المنفعة عنه و الطمع توقع منفعة ممن يستبعد وقوع تلك المنفعة منه ثم قال و إن هاج به الطمع قتله الحرص و ذلك لأن الحرص يتبع الطمع إذا لم يعلم الطامع أنه طامع و إنما يظن أنه راج. ثم قال و إن ملكه اليأس قتله الأسف أكثر الناس إذا يئسوا أسفوا. ثم عدد الأخلاق و غيرها من الأمور الواردة في الفصل إلى آخره ثم ختمه بأن قال فكل تقصير به مضر و كل إفراط له مفسد و قد سبق كلامنا في العدالة و أنها الدرجة الوسطى بين طرفين هما رذيلتان و العدالة هي الفضيلة كالجود الذي يكتنفه التبذير و الإمساك و الذكاء الذي يكتنفه الغباوة و الجربزة و الشجاعة التي يكتنفها الهوج و الجبن و شرحنا ما قاله الحكماء في ذلك شرحا كافيا فلا معنى لإعادته(19/219)

89 / 150
ع
En
A+
A-