قد ذكر شيخنا أبو الحسين رحمه الله هذا الخبر في كتاب الغرر و رواه عن الأصبغ بن نباتة قال قام شيخ إلى علي ع فقال أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أ كان بقضاء الله و قدره فقال و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما وطئنا موطئا و لا هبطنا واديا إلا بقضاء الله و قدره فقال الشيخ فعند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا فقال مه أيها الشيخ لقد عظم الله أجركم في مسيركم و أنتم سائرون و في منصرفكم و أنتم منصرفون و لم تكونوا في شي ء من حالاتكم مكرهين شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 228و لا إليها مضطرين فقال الشيخ و كيف القضاء لقدر ساقانا فقال ويحك لعلك ظننت قضاء لازما و قدرا حتما لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و الأمر و النهي و لم تأت لائمة من الله لمذنب و لا محمدة لمحسن و لم يكن المحسن أولى بالمدح من المسي ء و لا المسي ء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة اد الأوثان و جنود الشيطان و شهود الزور و أهل العمى عن الصواب و هم قدرية هذه الأمة و مجوسها إن الله سبحانه أمر تخييرا و نهى تحذيرا و كلف يسيرا و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكرها و لم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار فقال الشيخ فما القضاء و القدر اللذان ما سرنا إلا بهما فقال هو الأمر من الله و الحكم ثم تلا قوله سبحانه وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فنهض الشيخ مسرورا و هو يقول
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم النشور من الرحمن رضواناأوضحت من ديننا ما كان ملتبسا جزاك ربك عنا فيه إحسانا(19/195)
. ذكر ذلك أبو الحسين في بيان أن القضاء و القدر قد يكون بمعنى الحكم و الأمر و أنه من الألفاظ المشتركة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 77229خُذِ الْحِكْمَةَ أَنَّى كَانَتْ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَكُونُ فِي صَدْرِ الْمُنَافِقِ فَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ فَتَسْكُنَ إِلَى صَوَاحِبِهَا فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ قَالَ الرَّضِيُّ رَحِمَهُ اللَّهِ تَعَالَىَ قَدْ قَالَ عَلِيٌّ ع فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَخُذِ الْحِكْمَةَ وَ لَوْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ
خطب الحجاج فقال إن الله أمرنا بطلب الآخرة و كفانا مئونة الدنيا فليتنا كفينا مئونة الآخرة و أمرنا بطلب الدنيا. فسمعها الحسن فقال هذه ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق. و كان سفيان الثوري يعجبه كلام أبي حمزة الخارجي و يقول ضالة المؤمن على لسان المنافق تقوى الله أكرم سريرة و أفضل ذخيرة منها ثقة الواثق و عليها مقة الوامق ليعمل كل امرئ في مكان نفسه و هو رخي اللبب طويل السبب ليعرف ممد يده و موضع قدمه و ليحذر الزلل و العلل المانعة من العمل رحم الله عبدا آثر التقوى و استشعر شعارها و اجتنى ثمارها باع دار البقاء بدار الآباد الدنيا كروضة يونق مرعاها و تعجب من رآها تمج عروقها الثرى و تنطف فروعها بالندى حتى إذا بلغ العشب إناه و انتهى الزبرج منتهاه ضعف العمود و ذوي العود و تولى من الزمان ما لا يعود فحتت الرياح الورق و فرقت ما كان اتسق فأصبحت هشيما و أمست رميما
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 78230قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ قال الرضي رحمه الله تعالى و هذه الكلمة التي لا تصاب لها قيمة و لا توزن بها حكمة و لا تقرن إليها كلمة(19/196)
قد سلف لنا في فضل العلم أقوال شافية و نحن نذكر هاهنا نكتا أخرى. يقال إن من كلام أردشير بن بابك في رسالته إلى أبناء الملوك بحسبكم دلالة على فضل العلم أنه ممدوح بكل لسان يتزين به غير أهله و يدعيه من لا يلصق به قال و بحسبكم دلالة على عيب الجهل أن كل أحد ينتفي منه و يغضب أن يسمى به. و قيل لأنوشروان ما بالكم لا تستفيدون من العلم شيئا إلا زادكم ذلك عليه حرصا قال لأنا لا نستفيد منه شيئا إلا ازددنا به رفعة و عزا و قيل له ما بالكم لا تأنفون من التعلم من كل أحد قال لعلمنا بأن العلم نافع من حيث أخذ. و قيل لبزرجمهر بم أدركت ما أدركت من العلم قال ببكور كبكور الغراب و حرص كحرص الخنزير و صبر كصبر الحمار. و قيل له العلم أفضل أم المال فقال العلم قيل فما بالنا نرى أهل العلم على شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 231أبواب أهل المال أكثر مما نرى أصحاب الأموال على أبواب العلماء قال ذاأيضا عائد إلى العلم و الجهل و إنما كان كما رأيتم لعلم العلماء بالحاجة إلى المال و جهل أصحاب المال بفضيلة العلم. و قال الشاعر
تعلم فليس المرء يخلق عالما و ليس أخو علم كمن هو جاهل و إن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 79232أُوصِيكُمْ بِخَمْسٍ لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ الْإِبِلِ لَكَانَتْ لِذَلِكَ أَهْلًا لَا يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا رَبَّهُ وَ لَا يَخَافَنَّ إِلَّا ذَنْبَهُ وَ لَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ مَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ وَ لَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّيْ ءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ وَ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الْإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ وَ لَا خَيْرَ فِي جَسَدٍ لَا رَأْسَ مَعَهُ وَلَا خَيْرَ فِي إِيمَانٍ لَا صَبْرَ مَعَهُ(19/197)
قد تقدم الكلام في جميع الحكم المنطوي عليها هذا الفصل و قال أبو العتاهية
و الله لا أرجو سواك و لا أخاف سوى ذنوبي فاغفر ذنوبي يا رحيم فأنت ستار العيوبو كان يقال من استحيا من قول لا أدري كان كمن يستحيي من كشف ركبته ثم يكشف سوءته و ذلك لأن من امتنع من قول لا أدري و أجاب بالجهل و الخطإ فقد واقع ما يجب في الحقيقة أن يستحيا منه و كف عما ليس بواجب أن يستحيا منه فكان شبيها بما ذكرناه في الركبة و العورة. و كان يقال يحسن بالإنسان التعلم ما دام يقبح منه الجهل و كما يقبح منه الجهل ما دام حيا كذلك يحسن به التعلم ما دام حيا. و أما الصبر فقد سبق فيه كلام مقنع و سيأتي فيما بعد جملة من ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 80233وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ أَفْرَطَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَ كَانَ لَهُ مُتَّهِماً أَنَا دُونَ مَا تَقُولُ وَ فَوْقَ مَا فِي نَفْسِكَقد سبق منا قول مقنع في كراهية مدح الإنسان في وجهه. و كان عمر جالسا و عنده الدرة إذ أقبل الجارود العبدي فقال رجل هذا الجارود سيد ربيعة فسمعها عمر و من حوله و سمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال ما لي و لك يا أمير المؤمنين قال ما لي و لك أما لقد سمعتها قال و ما سمعتها فمه قال ليخالطن قلبك منها شي ء و أنا أحب أن أطأطئ منك. و قالت الحكماء إنه يحدث للممدوح في وجهه أمران مهلكان أحدهما الإعجاب بنفسه و الثاني إذا أثني عليه بالدين أو العلم فتر و قل اجتهاده و رضي عن نفسه و نقص تشميره و جده في طلب العلم و الدن فإنه إنما يتشمر من رأى نفسه مقصرا فأما من أطلقت الألسن بالثناء عليه فإنه يظن أنه قد وصل و أدرك فيقل اجتهاده و يتكل على ما قد حصل له عند الناس و لهذا(19/198)
قال النبي ص لمن مدح شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 234إنسانا كاد يسمعه ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها لما أفلحفأما قوله ع له و فوق ما في نفسك فإنه إنما أراد أن ينبهه على أنه قد عرف أنه كان يقع فيه و ينحرف عنه و إنما أراد تعريفه ذلك لما رآه من المصلحة إما لظنه أنه يقلع عما كان يذمه به أو ليعلمه بتعريفه أنه قد عرف ذلك أو ليخوفه و يزجره أو لغير ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 81235بَقِيَّةُ السَّيْفِ أَنْمَى عَدَداً وَ أَكْثَرُ وَلَداًقال شيخنا أبو عثمان ليته لما ذكر الحكم ذكر العلة. ثم قال قد وجدنا مصداق قوله في أولاده و أولاد الزبير و بنى المهلب و أمثالهم ممن أسرع القتل فيهم. و أتي زياد بامرأة من الخوارج فقال لها أما و الله لأحصدنكم حصدا و لأفنينكم عدا فقالت كلا إن القتل ليزرعنا فلما هم بقتلها تسترت بثوبها فقال اهتكوا سترها لحاها الله فقالت إن الله لا يهتك ستر أوليائه و لكن التي هتك سترها على يد ابنها سمية فقال عجلوا قتلها أبعدها الله فقتلت
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 82236مَنْ تَرَكَ قَوْلَ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُجاءت امرأة إلى بزرجمهر فسألته عن مسألة فقال لا أدري فقالت أ يعطيك الملك كل سنة كذا كذا و تقول لا أدري فقال إنما يعطيني الملك على ما أدري و لو أعطاني على ما لا أدري لما كفاني بيت ماله. و كان يقول قول لا أعلم نصف العلم. و قال بعض الفضلاء إذا قال لنا إنسان لا أدري علمناه حتى يدري و إن قال أدري امتحناه حتى لا يدري
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 83237رَأْيُ الشَّيْخِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَلَدِ الْغُلَامِ وَ يُرْوَى مِنْ مَشْهَدِ الْغُلَامِإنما قال كذلك لأن الشيخ كثير التجربة فيبلغ من العدو برأيه ما لا يبلغ بشجاعته الغلام الحدث غير المجرب لأنه قد يغرر بنفسه فيهلك و يهلك أصحابه و لا ريب أن الرأي مقدم على الشجاعة و لذلك قال أبو الطيب(19/199)