شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 73222كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وَ كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍالكلمة الأولى تؤكد مذهب جمهور المتكلمين في أن العالم كله لا بد أن ينقضي و يفنى و لكن المتكلمين الذاهبين إلى هذا القول لا يقولون يجب أن يكون فانيا و منقضيا لأنه معدود فإن ذلك لا يلزم و من الجائز أن يكون معدودا و لا يجب فناؤه و لهذا قال أصحابنا إنما علمنا أن العالم يفنى عن طريق السمع لا من طريق العقل فيجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على ما يطابق ذلك و هو أنه ليس يعني أن العدد علة في وجوب الانقضاء كما يشعر به ظاهر لفظه و هو الذي يسميه أصحاب أصول الفقه إيماء و إنما مراده كل معدود فاعلموا أنه فان و منقض فقد حكم على كل معدود بالانقضاء حكما مجردا عن العلة كما لو قيل زيد قائم ليس يعنى أنه قائم لأنه يسمى زيدا. فأما قوله و كل متوقع آت فيماثله قول العامة في أمثالها لو انتظرت القيامة لقامت و القول في نفسه حق لأن العقلاء لا ينتظرون ما يستحيل وقوعه و إنما ينتظرون ما يمكن وقوعه و ما لا بد من وقوعه فقد صح أن كل منتظر سيأتي(19/190)
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 74223إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا اشْتَبَهَتْ اعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَاروي إذا استبهمت و المعنى واحد و هو حق و ذلك أن المقدمات تدل على النتائج و الأسباب تدل على المسببات و طالما كان الشيئان ليسا علة و معلولا و إنما بينهما أدنى تناسب فيستدل بحال أحدهما على حال الآخر و إذا كان كذلك و اشتبهت أمور على العاقل الفطن و لم يعلم إلى ما ذا تئول فإنه يستدل على عواقبها بأوائلها و على خواتمها بفواتحها كالرعية ذات السلطان الركيك الضعيف السياسة إذا ابتدأت أمور مملكته تضطرب و استبهم على العاقل كيف يكون الحال في المستقبل فإنه يجب عليه أن يعتبر أواخرها بأوائلها و يعلم أنه سيفضي أمر ذلك الملك إلى انتشار و انحلال في مستقبل الوقت لأن الحركات الأولى منذرة بذلك و واعدة بوقوعه و هذا واضح
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 75224وَ مِنْ خَبَرِ ضِرَارِ بْنِ ضَمْرَةَ الضَّابِيِّ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَ مَسْأَلَتِهِ لَهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع قَالَ فَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَ قَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُولَهُ وَ هُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ وَ يَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ وَ هُوَ يَقُولُ يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي أَ بِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّفْتِ لَا حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ وَ خَطَرُكِ يَسِيرٌ وَ أَمَلُكِ حَقِيرٌ آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَ طُولِ الطَّرِيقِ وَ بُعْدِ السَّفَرِ وَ عَظِيمِ الْمَوْرِدِ(19/191)
السدول جمع سديل و هو ما أسدل على الهودج و يجوز في جمعه أيضا أسدال و سدائل و هو هاهنا استعارة و التململ و التملل أيضا عدم الاستقرار من المرض كأنه على ملة و هي الرماد الحار. و السليم الملسوع. و يروى تشوقت بالقاف. و قوله لا حان حينك دعاء عليها أي لا حضر وقتك كما تقول لا كنت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 225فأما ضرار بن ضمرة فإن الرياشي روى خبره و نقلته أنا من كتاب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في التذييل على نهج البلاغة قال دخل ضرار على معاوية و كان ضرار من صحابة علي ع فقال له معاوية يا ضرار صف لي عليا قال و تعفيني قال لا أعفيك قال ما أصف منه كان و الله شديد القوى بعيد المدى يتفجر العلم من أنحائه و الحكمة من أرجائه حسن المعاشرة سهل المباشرة خشن المأكل قصير الملبس غزير العبرة طويل الفكرة يقلب كفه و يخاطب نفسه و كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألنا و يبتدئنا إذا سكتنا و نحن مع تقريبه لنا أشد ما يكون صاحب لصاحب هيبة لا نبتدئه الكلام لعظمته يحب المساكين و يقرب أهل الدين و أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه... و تمام الكلام مذكور في الكتاب. و(19/192)
ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب هذا الخبر فقال حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا يحيى بن مالك بن عائد قال حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر و حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا العكلي عن الحرمازي عن رجل من همدان قال قال معاوية لضرار الضبابي يا ضرار صف لي عليا قال اعفني يا أمير المؤمنين قال لتصفنه قال أما إذ لا بد من وصفه فكان و الله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا و يحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه و تنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا و زهرتها و يأنس بالليل و وحشته و كان غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما قصر و من الطعام ما خشن كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه و ينبئنا إذا استفتيناه و نحن و الله شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 226مع تقريبه إيانا و قربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له يعظم أهل الدين و يقرب المسين لا يطمع القوي في باطله و لا ييئس الضعيف من عدله و أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و يقول يا دنيا غري غيري أ بي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيها فعمرك قصير و خطرك حقير آه من قلة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق فبكى معاوية و قال رحم الله أبا حسن كان و الله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها(19/193)
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 76227وَ مِنْ كَلَامِهِ ع لِلسَّائِلِ الشَّامِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ أَ كَانَ مَسِيرُنَا إِلَى الشَّامِ بِقَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ وَ قَدَرِهِ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ هَذَا مُخْتَارُهُ وَيْحَكَ لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قَضَاءً لَازِماً وَ قَراً حَاتِماً لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَ الْعِقَابُ وَ سَقَطَ الْوَعْدُ وَ الْوَعِيدُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْيِيراً وَ نَهَاهُمْ تَحْذِيراً وَ كَلَّفَ يَسِيراً وَ لَمْ يُكَلِّفْ عَسِيراً وَ أَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً وَ لَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً وَ لَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً وَ لَمْ يُرْسِلِ الْأَنْبِيَاءَ لَعِباً وَ لَمْ يُنْزِلِ الْكُتُبَ لِلْعِبَادِ عَبَثاً وَ لَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ(19/194)