شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 49181عَيْبُكَ مَسْتُورٌ مَا أَسْعَدَكَ جَدُّكَقد قال الناس في الجد فأكثروا و إلى الآن لم يتحقق معناه و من كلام بعضهم إذا أقبل البخت باضت الدجاجة على الوتد و إذا أدبر البخت أسعر الهاون في الشمس. و من كلام الحكماء إن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربا. و قال أبو حيان نوادر ابن الجصاص الدالة على تغفله و بلهه كثيرة جدا قد صنف فيها الكتب من جملتها أنه سمع إنسانا ينشد نسيبا فيه ذكر هند فأنكر ذلك و قال لا تذكروا حماة النبي ص إلا بخير و أشياء عجيبة أظرف من هذا و كانت سعادته تضرب بها الأمثال و كثرة أمواله التي لم يجتمع لقارون مثلها قال أبو حيان فكان الناس يعجبون من ذلك حتى أن جماعة من شيوخ بغداد كانوا يقولون إن ابن الجصاص أعقل الناس و أحزم الناس و أنه هو الذي ألحم الحال بين المعتضد و بين خمارويه بن أحمد بن طولون و سفر بينهما سفارة عجيبة و بلغ من الجهتين أحسن مبلغ و خطب قطر الندى بنت خمارويه للمعتضد و جهزها من مصر شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 182على أجمل وجه و أعلى ترتيب و لكنه كان يقصد أن يتغافل و يتجاهل و يظهر البله و النقص يستبقي بذلك ماله و يحرس به نعمته و يدفع عنه عين الكمال و حسد الأعداء. قال أبو حيان قلت لأبي غسان البصري أظن ما قاله هؤلاء صحيحا فإن المعتضد مع حز و عقله و كماله و إصابة رأيه ما اختاره للسفارة و الصلح إلا و المرجو منه فيما يأتيه و يستقبله من أيامه نظير ما قد شوهد منه فيما مضى من زمانه و هل كان يجوز أن يصلح أمر قد تفاقم فساده و تعاظم و اشتد برسالة أحمق و سفارة أخرق فقال أبو غسان إن الجد ينسخ حال الأخرق و يستر عيب الأحمق و يذب عن عرض المتلطخ و يقرب الصواب بمنطقه و الصحة برأيه و النجاح بسعيه و الجد يستخدم العقلاء لصاحبه و يستعمل آراءهم و أفكارهم في مطالبه و ابن الجصاص على ما قيل و روي و حدث و حكي و لكن جده كفاه غائلة الحمق و حماه عواقب الخرق و(19/170)


لو عرفت خبط العاقل و تعسفه و سوء تأتيه و انقطاعه إذا فارقه الجد لعلمت أن الجاهل قد يصيب بجهله ما لا يصيب العالم بعلمه مع حرمانه. قال أبو حيان فقلت له فما الجد و ما هذا المعنى الذي علقت عليه هذه الأحكام كلها فقال ليس لي عنه عبارة معينة و لكن لي به علم شاف استفدته بالاعتبار و التجربة و السماع العريض من الصغير و الكبير و لهذا سمع من امرأة من الأعراب ترقص ابنا لها فتقول له رزقك الله جدا يخدمك عليه ذوو العقول و لا رزقك عقلا تخدم به ذوي الجدود
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 50183أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِقد تقدم لنا قول مقنع في العفو و الحلم. و قال الأحنف ما شي ء أشد اتصالا بشي ء من الحلم بالعز. و قالت الحكماء ينبغي للإنسان إذا عاقب من يستحق العقوبة ألا يكون سبعا في انتقامه و ألا يعاقب حتى يزول سلطان غضبه لئلا يقدم على ما لا يجوز و لذلك جرت سنة السلطان بس المجرم حتى ينظر في جرمه و يعيد النظر فيه. و أتي الإسكندر بمذنب فصفح عنه فقال له بعض جلسائه لو كنت إياك أيها الملك لقتلته قال فإذا لم تكن إياي و لا كنت إياك لم يقتل. و انتهى إليه أن بعض أصحابه يعيبه فقيل له أيها الملك لو نهكته عقوبة فقال يكون حينئذ أبسط لسانا و عذرا في اجتنابي. و قالت الحكماء أيضا لذة العفو أطيب من لذة التشفي و الانتقام لأن لذة العفو يشفعها حميد العاقبة و لذة الانتقام يلحقها ألم الندم و قالوا العقوبة ألأم حالات ذي القدرة و أدناها و هي طرف من الجزع و من رضي ألا يكون بينه و بين الظالم إلا ستر رقيق فلينتصف
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 51184السَّخَاءُ مَا كَانَ ابْتِدَاءً فَإِذَا كَانَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَحَيَاءٌ وَ تَذَمُّمٌيعجبني في هذا المعنى قول ابن حيوس
إني دعوت ندى الكرام فلم يجب فلأشكرن ندى أجاب و ما دعي و من العجائب و العجائب جمة شكر بطي ء عن ندى المتسرو قال آخر(19/171)


ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله عوضا و لو نال الغنى بسؤال و إذا النوال إلى السؤال قرنته رجح السؤال و خف كل نوال شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 52185لَا غِنَى كَالْعَقْلِ وَ لَا فَقْرَ كَالْجَهْلِ وَ لَا مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ وَ لَا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ روى أبو العباس في الكامل عن أبي عبد الله ع أنه قال خمس من لم يكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع العقل و الدين و الأدب و الحياء و حسن الخلق
و قال أيضا لم يقسم بين الناس شي ء أقل من خمس اليقين و القناعة و الصبر و الشكر و الخامسة التي يكمل بها هذا كله العقل و عنه ع أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال ما خلقت خلقا أحب إلي منك لك الثواب و عليك العقاب
و عنه ع قال قال رسول الله ص إن الله ليبغض الضعيف الذي لا زبر له قال الزبر العقل
و عنه ع عن رسول الله ص ما قسم الله للعباد أفضل من العقل فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل و فطر العاقل أفضل من صوم الجاهل و إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل و ما بعث الله رسولا حتى يستكمل العقل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 186و حتى يكون عقله أفضل من عقول جميعمته و ما يضمره في نفسه أفضل من اجتهاد جميع المجتهدين و ما أدى العبد فرائض الله تعالى حتى عقل عنه و لا يبلغ جميع العابدين في عباداتهم ما يبلغه العاقل و العقلاء هم أولو الألباب الذين قال الله تعالى عنهم وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ
قال أبو العباس و قال رجل من أصحاب أبي عبد الله ع له و قد سمعه يقول بل يروى مرفوعا إذا بلغكم عن رجل حسن الحال فانظروا في حسن عقله فإنما يجازى بعقله يا ابن رسول الله إن لي جارا كثير الصدقة كثير الصلاة كثير الحج لا بأس به فقال كيف عقله فقال ليس له عقل فقال لا يرتفع بذاك منه(19/172)


و عنه ع ما بعث الله نبيا إلا عاقلا و بعض النبيين أرجح من بعض و ما استخلف داود سليمان ع حتى اختبر عقله و هو ابن ثلاث عشرة سنة فمكث في ملكه ثلاثين سنة
و عنه مرفوعا صديق كل امرئ عقله و عدوه جهله
و عنه مرفوعا أنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم
قال أبو العباس و سئل أبو عبد الله ع ما العقل فقال ما عبد به الرحمن و اكتسبت به الجنان
قال و قال أبو عبد الله سئل الحسن بن علي ع عن العقل فقال التجرع للغصة و مداهنة الأعداء
قلت هذا كلام الحسن ع و أنا أقطع بذلك. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 18 قال أبو العباس و قال أبو عبد الله العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه و لا يسأل من يخاف منعه و لا يثق بمن يخاف عذره و لا يرجو من لا يوثق برجائه
قال أبو العباس و روي عن أبي جعفر ع قال كان موسى ع يدني رجلا من بني إسرائيل لطول سجوده و طول صمته فلا يكاد يذهب إلى موضع إلا و هو معه فبينا هو يوما من الأيام إذ مر على أرض معشبة تهتز فتأوه الرجل فقال له موسى على ما ذا تأوهت قال تمنيت أن يكون لربي حمار و أرعاه هاهنا فأكب موسى طويلا ببصره إلى الأرض اغتماما بما سمع منه فانحط عليه الوحي فقال ما الذي أنكرت من مقالة عبدي إنما آخذ عبادي على قدر ما آتيتهم
قال أبو العباس و روي عن علي ع هبط جبرائيل ع على آدم ع بثلاث ليختار منها واحدة و يدع اثنتين و هي العقل و الحياء و الدين فاختار العقل فقال جبرائيل للحياء و الدين انصرفا فقالا إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان فقال فشأنكما ففاز بالثلاث(19/173)


فأما قوله ع و لا ميراث كالأدب فإني قرأت في حكم الفرس عن بزرجمهر ما ورثت الآباء أبناءها شيئا أفضل من الأدب لأنها إذا ورثتها الأدب اكتسبت بالأدب المال فإذا ورثتها المال بلا أدب أتلفته بالجهل و قعدت صفرا من المال و الأدب. قال بعض الحكماء من أدب ولده صغيرا سر به كبيرا. و كان يقال من أدب ولده أرغم حاسده. و كان يقال ثلاثة لا غربة معهن مجانبة الريب و حسن الأدب و كف الأذى. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 188و كان يقال عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر و مؤنس في الوحدة و جمال في المحفل و سبب إلى طلب الحاجة. و قال بزرجمهرن كثر أدبه كثر شرفه و إن كان قبل وضيعا و بعد صيته و إن كان خاملا و ساد و إن كان غريبا و كثرت الحاجة إليه و إن كان مقلا. و قال بعض الملوك لبعض وزرائه ما خير ما يرزقه العبد قال عقل يعيش به قال فإن عدمه قال أدب يتحلى به قال فإن عدمه قال مال يستتر به قال فإن عدمه قال صاعقة تحرقه فتريح منه العباد و البلاد. و قيل لبعض الحكماء متى يكون العلم شرا من عدمه قال إذا كثر الأدب و نقصت القريحة يعني بالقريحة العقل. فأما القول في المشورة فقد تقدم و ربما ذكرنا منه نبذا فيما بعد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 53189الصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَى مَا تَكْرَهُ وَ صَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّالنوع الأول أشق من النوع الثاني لأن الأول صبر على مضرة نازلة و الثاني صبر على محبوب متوقع لم يحصل و قد تقدم لنا قول طويل في الصبر. سئل بزرجمهر في بليته عن حاله فقال هون علي ما أنا فيه فكري في أربعة أشياء أولها أني قلت القضاء و القدر لا بد من جريانهما و الثاني أني قلت إن لم أصبر فما أصنع و الثالث أني قلت قد كان يجوز أن تكون المحنة أشد من هذه و الرابع أني قلت لعل الفرج قريب. و قال أنو شروان جميع أمر الدنيا منقسم إلى ضربين لا ثالث لهما أما ما في دفعه حيلة فالاضطراب دواؤه و أما ما لا حيلة فيه فالصبر شفاؤه(19/174)

80 / 150
ع
En
A+
A-