شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 43173وَ قَالَ ع لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَا أَبْغَضَنِي وَ لَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي وَ ذَلِكَ أَنَّهُ قُضَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص أَنَّهُ قَالَ يَا عَلِيُّ لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَ لَا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ
جماتها بالفتح جمع جمة و هي المكان يجتمع فيه الماء و هذه استعارة و الخيشوم أقصى الأنف. و مراده ع من هذا الفصل إذكار الناس ما قاله فيه رسول الله ص و هو لا يبغضك مؤمن و لا يحبك منافق و هي كلمة حق و ذلك لأن الإيمان و بغضه ع لا يجتمعان لأن بغضه كبيرة و صاحب الكبيرة عندنا لا يسمى مؤمنا و أما المنافق فهو الذي يظهر الإسلام و يبطن الكفر و الكافر بعقيدته لا يحب عليا ع لأن المراد من الخبر المحبة الدينية و من لا يعتقد الإسلام لا يحب أحدا من أهل الإسلام لإسلامه و جهاده في الدين فقد بان أن الكلمة حق و هذا الخبر مروي في الصحاح بغير هذا اللفظ
لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق
و قد فسرناه فيما سبق(19/165)
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 44174سَيِّئَةٌ تَسُوءُكَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُكَهذا حق لأن الإنسان إذا وقع منه القبيح ثم ساءه ذلك و ندم عليه و تاب حقيقة التوبة كفرت توبته معصيته فسقط ما كان يستحقه من العقاب و حصل له ثواب التوبة و أما من فعل واجبا و استحق به ثوابا ثم خامره الإعجاب بنفسه و الإدلال على الله تعالى بعلمه و التيه على الناس بعبادته و اجتهاده فإنه يكون قد أحبط ثواب عبادته بما شفعها من القبيح الذي أتاه و هو العجب و التيه و الإدلال على الله تعالى فيعود لا مثابا و لا معاقبا لأنه يتكافأ الاستحقاقان. و لا ريب أن من حصل له ثواب التوبة و سقط عنه عقاب المعصية خير ممن خرج من الأمرين كفافا لا عليه و لا له(19/166)
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 45175قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَ صِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَ شَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَ عِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِقد تقدم الكلام في كل هذه الشيم و الخصال ثم نقول هاهنا إن كبر الهمة خلق مختص بالإنسان فقط و أما سائر الحيوانات فليس يوجد فيها ذلك و إنما يتجرأ كل نوع منها الفعل بقدر ما في طبعه و علو الهمة حال متوسطة محمودة بين حالتين طرفي رذيلتين و هما الندح و تسمية الحكماء التفتح و صغر الهمة و تسمية الناس الدناءة فالتفتح تأهل الإنسان لما لا يستحقه و صغر الهمة تركه لما يستحقه لضعف في نفسه فهذان مذمومان و العدالة و هي الوسط بينهما محمودة و هي علو الهمة و ينبغي أن يعلم أن المتفتح جاهل أحمق و صغير الهمة ليس بجاهل و لا أحمق و لكنه دني ء ضعيف قاصر و إذا أردت التحقيق فالكبير الهمة من لا يرضى بالهمم الحيوانية و لا يقنع لنفسه أن يكون عند رعاية بطنه و فرجه بل يجتهد في معرفة صانع العالم و مصنوعاته و في اكتساب المكارم الشرعية ليكون من خلفاء الله و أوليائه في الدنيا و مجاوريه في الآخرةو لذلك قيل من عظمت همته لم يرض بقنية مستردة و حياة مستعارة فإن أمكنك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 176أن تقتني قنية مؤبدة و حياة مخلدة فافعل غير مكترث بقلة من يصحبك و يعينك على ذلك فإنه كما قيلإذا عظم المطلوب قل المساعد
و كما قيل
طرق العلاء قليلة الإيناس
و أما الكلام في الصدق و المروءة و الشجاعة و الأنفة و العفة و الغيرة فقد تقدم كثير منه و سيأتي ما هو أكثر فيما بعد إن شاء الله تعالى(19/167)
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 46177الظَّفَرُ بِالْحَزْمِ وَ الْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأْيِ وَ الرَّأْيُ بِتَحْصِينِ الْأَسْرَارِقد تقدم القول في كتمان السر و إذاعته. و قال الحكماء السر ضربان أحدهما ما يلقى إلى الإنسان من حديث ليستكتم و ذلك إما لفظا كقول القائل اكتم ما أقوله لك و إما حالا و هو أن يجهر بالقول حال انفراد صاحبه أو يخفض صوته حيث يخاطبه أو يخفيه عن مجالسيه و لهذا قيل إذا حدثك إنسان و التفت إليه فهو أمانة. و الضرب الثاني نوعان أحدهما أن يكون حديثا في نفسك تستقبح إشاعته و الثاني أن يكون أمرا تريد أن تفعله. و إلى الأول
أشار النبي ص بقوله من أتى منكم شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز و جل
و إلى الثاني أشار من قال من الوهن و الضعف إعلان الأمر قبل إحكامه و كتمان الضرب الأول من الوفاء و هو مخصوص بعوام الناس و كتمان الضرب الثاني من المروءة و الحزم و النوع الثاني من نوعيه أخص بالملوك و أصحاب السياسات. قالوا و إذاعة السر من قلة الصبر و ضيق الصدر و يوصف به ضعفة الرجال شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 178و النساء و الصبيان و السبب في أنه يصعب كتمان السر أن للإنسان قوتين إحداهما آخذة و الأخرى معطية و كل واحدة منهما تتشوق إلى فعلها الخاص بها و لو لا أن الله تعالى وكل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخر من لم تزود فعلى الإنسان أن يمسك هذه القوة و لا يطلقها إلا حيث يجب إطلاقها فإنها إن لم تزم و تخطم تقحمت بصاحبها في كل مهلكة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 47179احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَليس يعني بالجوع و الشبع ما يتعارفه الناس و إنما المراد احذروا صولة الكريم إذا ضيم و امتهن و احذروا صولة اللئيم إذا أكرم و مثل المعنى الأول قول الشاعر
لا يصبر الحر تحت ضيم و إنما يصبر الحمار
و مثل المعنى الثاني قول أبي الطيب(19/168)
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته و إن أنت أكرمت اللئيم تمردا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 48180قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِهذا مثل قولهم من لان استمال و من قسا نفر و ما استعبد الحر بمثل الإحسان إليه و قال الشاعر
و إني لوحشي إذا ما زجرتني و إني إذا ألفتني لألوف
فأما قول عمارة بن عقيل
تبحثتم سخطي فكدر بحثكم نخيلة نفس كان صفوا ضميرهاو لم يلبث التخشين نفسا كريمة على قومها أن يستمر مريرهاو ما النفس إلا نطفة بقرارة إذا لم تكدر كان صفوا غديرها
فيكاد يخالف قول أمير المؤمنين ع في الأصل لأن أمير المؤمنين ع جعل أصل طبيعة القلوب التوحش و إنما تستمال لأمر خارج و هو التألف و الإحسان و عمارة جعل أصل طبيعة النفس الصفو و السلامة و إنما تتكدر و تجمح لأمر خارج و هو الإساءة و الإيحاش(19/169)