اشتدوا بين يديه أسرعوا شيئا فنهاهم عن ذلك و قال إنكم تشقون به على أنفسكم لما فيه من تعب الأبدان و تشقون به في آخرتكم تخضعون للولاة كما زعمتم أنه خلق و عادة لكم خضوعا تطلبون به الدنيا و المنافع العاجلة فيها و كل خضوع و تذلل لغير الله فهو معصية. ثم ذكر أن الخسران المبين مشقة عاجلة يتبعها عقاب الآخرة و الربح البين دعة عاجلة يتبعها الأمان من النار
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 38157قَالَ ع لِابْنِهِ الْحَسَنِ ع يَا بُنَيَّ احْفَظْ عَنِّي أَرْبَعاً وَ أَرْبَعاً لَا يَضُرُّكَ مَا عَمِلْتَ مَعَهُنَّ إِنَّ أَغْنَى الْغِنَى الْعَقْلُ وَ أَكْبَرَ الْفَقْرِ الْحُمْقُ وَ أَوْحَشَ الْوَحْشَةِ الْعُجْبُ وَ أَكْرَمَ الْحَسَبِ حُسْنُ الْخُلُقِ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْأَحْمَقِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْبَخِيلِ فَإِنَّهُ يَقْعُدُ عَنْكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْفَاجِرِ فَإِنَّهُ يَبِيعُكَ بِالتَّافِهِ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ عَلَيْكَ الْبَعِيدَ وَ يُبَعِّدُ عَلَيْكَ الْقَرِيبَ
هذا الفصل يتضمن ذكر العقل و الحمق و العجب و حسن الخلق و البخل و الفجور و الكذب و قد تقدم كلامنا في هذه الخصال أجمع و قد أخذت قوله ع إياك و مصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك فقلت في أبيات لي
حياتك لا تصحبن الجهول فلا خير في صحبة الأخرق يظن أخو الجهل أن الضلال عين الرشاد فلا يتقي و يكسب صاحبه حمقه فيسرق منه و لا يسرق و أقسم أن العدو اللبيب خير من المشفق الأحمق
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 39158لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ(19/130)


هذا الكلام يمكن أن يحمل على حقيقته و يمكن أن يحمل على مجازه فإن حمل على حقيقته فقد ذهب إلى هذا المذهب كثير من الفقهاء و هو مذهب الإمامية و هو أنه لا يصح التنفل ممن عليه قضاء فريضة فاتته لا في الصلاة و لا في غيرها فأما الحج فمتفق عليه بين المسلمين أنه لا يصح الابتداء بنفله و إذا نوى نية النفل و لم يكن قد حج حجة الإسلام وقع حجه فرضا فأما نوافل الزكاة فما عرفت أحدا قال إنه لا يثاب المتصدق بها و إن كان لم يؤد الزكاة الواجبة و أما إذا حمل على مجازه فإن معناه يجب الابتداء بالأهم و تقديمه على ما ليس بأهم فتدخل هذه الكلمة في الآداب السلطانية و الإخوانية نحو أن تقول لمن توصيه لا تبدأ بخدمة حاجب الملك قبل أن تبدأ بخدمة ولد الملك فإنك إنما تروم القربة للملك بالخدمة و لا قربة إليه في تأخير خدمة ولده و تقديم خدمة غلامه و حمل الكلمة على حقيقتها أولى لأن اهتمام أمير المؤمنين ع بالأمور الدينية و الشرعية في وصاياه و منثور كلامه أعظم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 40159لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَ قَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ
قال الرضي رحمه الله تعالى و هذا من المعاني العجيبة الشريفة و المراد به أن العاقل لا يطلق لسانه إلا بعد مشاورة الروية و مؤامرة الفكرة و الأحمق تسبق حذفات لسانه و فلتات كلامه مراجعة فكره و مماخضة رأيه فكان لسان العاقل تابع لقلبه و كان قلب الأحمق تابع للسانه قال و قد روي عنه ع هذا المعنى بلفظ آخر و هو قوله قلب الأحمق في فيه و لسان العاقل في قلبه و معناهما واحد
قد تقدم القول في العقل و الحمق و نذكر هاهنا زيادات أخرى
أقوال و حكايات حول الحمقى
قالوا كل شي ء يعز إذا قل و العقل كلما كان أكثر كان أعز و أغلى. و كان عبد الملك يقول أنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل. قيل لبعضهم ما جماع العقل فقال ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه و ما لا يوجد كاملا فلا حد له.(19/131)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 17120تَذِلُّ الْأُمُورُ لِلْمَقَادِيرِ حَتَّى يَكُونَ الْحَتْفُ فِي التَّدْبِيرِ
إذا تأملت أحوال العالم وجدت صدق هذه الكلمة ظاهرا و لو شئنا أن نذكر الكثير من ذلك لذكرنا ما يحتاج في تقييده بالكتابة إلى مثل حجم كتابنا هذا و لكنا نذكر لمحا و نكتا و أطرافا و دررا من القول. فرش مروان بن محمد و قد لقي عبد الله بن علي أنطاعا و بسط عليها المال و قال من جاءني برأس فله مائة درهم فعجزت الحفظة و الحراس عن حمايته و اشتغلت طائفة من الجند بنهبه و تهافت الجيش عليه لينتهبوه فغشيهم عبد الله بن علي بعساكره فقتل منهم ما لا يحصى و هزم الباقون. و كسر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن جيش أبي جعفر المنصور بباخمرى و أمر أصحابه باتباعهم فحال بينهم و بين أصحاب أبي جعفر ماء ضحضاح فكره إبراهيم و جيشه خوض ذلك الماء و كان واسعا فأمر صاحب لوائه أن يتعرج باللواء على مسناة كانت على ذلك الماء يابسة فسلكها صاحب اللواء و هي تفضي بانعراج و انعكاس إلى الأرض اليبس فلما رأى عسكر أبي جعفر أن لواء القوم قد تراجع شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 121القهقرى ظنوهم منهزمين فعطفوا عليهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة و جاء سهم غرب فأصاب إبراهيم فقتله. و قد دبرت من قبل قريش في حماية العير بأن نفرت على الصعب و الذلول لتدفع رسول الله ص عن اللطيمة فكان هلاكها في تدبيرها. و كسرت الأنصار يوم أحد بأن أخرجت النبي ص عن المدينة ظنا منها أن الظفر و النصرة كانت بذلك و كان سبب عطبها و ظفر قريش بها و لو أقامت بين جدران المدينة لم تظفر قريش منها بشي ء. و دبر أبو مسلم الدولة الهاشمية و قام بها حتى كان حتفه في تدبيره. و كذلك جرى لأبي عبد الله المحتسب مع عبد الله المهدي بالمغرب. و دبر أبو القاسم بن المسلمة رئيس الرؤساء في إخراج البساسيري عن العراق حتى كان هلاكه على يده و كذلك أيضا انعكس عليه تدبيره في إزالة الدولة(19/132)


البويهية من الدولة السلجوقية ظنا منه أنه يدفع الشر بغير الشر فدفع الشر بما هو شر منه. و أمثال هذا و نظائره أكثر من أن تحصى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 18122وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ ص غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَ لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ فَقَالَ ع إِنَّمَا قَالَ ص ذَلِكَ وَ الدِّينُ قُلٌّ فَأَمَّا الآْنَ وَ قَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَ ضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَ مَا اخْتَارَ
اليهود لا تخضب و كان النبي ص أمر أصحابه بالخضاب ليكونوا في مرأى العين شبابا فيجبن المشركون عنهم حال الحرب فإن الشيخ مظنة الضعف. قال علي ع كان ذلك و الإسلام قل أي قليل و أما الآن و قد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فقد سقط ذلك الأمر و صار الخضاب مباحا غير مندوب. و النطاق ثوب تلبسه المرأة لبسة مخصوصة ليس بصدرة و لا سراويل و سميت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين لأنها قطعت من ثوبها ذلك قطعة شدت بها سفرة لها حملها أبو بكر معه حين خرج من مكة مع النبي ص يوم الهجرة فقال النبي ص لقد أبدلها الله بها نطاقين في الجنة و كان نفر الشام ينادون عبد الله ابنها حين حصره الحجاج بمكة يشتمونه كما زعموا يا ابن ذات النطاقين فيضحك عبد الله منهم و قال لابن أبي عتيق أ لا تسمع يظنونه ذما ثم يقول شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 123
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و استعار أمير المؤمنين ع هذه اللفظة لسعة رقعة الإسلام و كذلك استعار قوله و ضرب بجرانه أي أقام و ثبت و ذلك لأن البعير إذا ضرب بجرانه الأرض و جرانه مقدم عنقه فقد استناخ و برك. و امرؤ مبتدأ و إن كان نكرة كقولهم شر أهر ذا ناب لحصول الفائدة و الواو بمعنى مع و هي و ما بعدها الخبر و ما مصدرية أي امرؤ مع اختياره
نبذ مما قيل في الشيب و الخضاب(19/133)


فأما القول في الخضاب فقد روى قوم أن رسول الله ص بدا شيب يسير في لحيته فغيره بالخضاب خضب بالحناء و الكتم و قال قوم لم يشب أصلا. و روي أن عائشة قالت ما كان الله ليشينه بالشيب فقيل أ و شين هو يا أم المؤمنين قالت كلكم يكرهه و أما أبو بكر فصح الخبر عنه بذلك و كذلك أمير المؤمنين و قيل إنه لم يخضب و قتل الحسين ع يوم الطف و هو مخضوب و
في الحديث المرفوع رواه عقبة بن عامر عليكم بالحناء فإنه خضاب الإسلام إنه يصفي البصر و يذهب بالصداع و يزيد في الباه و إياكم و السواد فإنه من سود سود الله وجهه يوم القيامة
و عنه ص عليكم بالخضاب فإنه أهيب لعدوكم و أعجب إلى نسائكم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 124و يقال في أبواب الكناية للمختضب هو يسود وجه النذير لأن النذير الشيب قيل في قوله تعالى وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ إنه الشيب. و كان عبد الرحمن بن الأسود أبيض الرأس و اللحية فأصبح ذات يوم و قد حمرهما و قال إن عائشة أرسلت إلى البارحة جاريتها فأقسمت علي لأغيرن و قالت إن أبا بكر كان يصبغ. و روى قيس بن أبي حازم قال كان أبو بكر يخرج إلينا و كان لحيته ضرام عرفج. و عن أبي عامر الأنصاري رأيت أبا بكر يغير بالحناء و الكتم و رأيت عمر لا يغير شيئا من شيبه و
قال إني سمعت رسول الله ص يقول من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة
و لا أحب أن أغير نوري. و كان أنس بن مالك يخضب و ينشد
نسود أعلاها و تأبى أصولها و ليس إلى رد الشباب سبيل
و روي أن عبد المطلب وفد على سيف بن ذي يزن فقال له لو خضبت فلما عاد إلى مكة خضب فقالت له امرأته نثيلة أم العباس و ضرار ما أحسن هذا الخضاب لو دام فقال
فلو دام لي هذا الخضاب حمدته و كان بديلا من خليل قد انصرم تمتعت منه و الحياة قصيرة و لا بد من موت نثيلة أو هرم و موت جهيز عاجل لا شوى له أحب إلينا من مقالكم حكم
قال يعني إنه صار شيخا فصار حكما بين الناس من قوله(19/134)

72 / 150
ع
En
A+
A-