عليه قلبك و عملته جوارحك و نظر إليه بصرك و اجترحته يداك و مشت إليه رجلاك و انظر هل يغني عنك ما شححت عليه من أمر الدنيا إذا انتزعه من يدك و دعاك إلى الحساب على ما منحك. فبكى المنصور و قال ليتني لم أخلق ويحك فكيف أحتال لنفسي قال إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم و يرضون بقولهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك و شاورهم في أمرك يسددوك قال قد بعثت إليهم فهربوا مني قال نعم خافوا أن تحملهم على طريقك و لكن افتح بابك و سهل حجابك و انظر المظلوم و اقمع الظالم و خذ الفي ء و الصدقات مما حل و طاب و اقسمه بالحق و العدل على أهله و أنا الضامن عنهم أن يأتوك و يسعدوك على صلاح الأمة. و جاء المؤذنون فسلموا عليه و نادوا بالصلاة فقام و صلى و عاد إلى مجلسه فطلب الرجل فلم يوجد. و روى ابن قتيبة أيضا في الكتاب المذكور أن عمرو بن عبيد قال للمنصور إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها و اذكر ليلة تتمخض لك صبيحتها عن يوم القيامة قال يعني ليلة موته فوجم المنصور فقال الربيع حسبك فقد عممت أمير المؤمنين فقال عمرو بن عبيد إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير عليه أن ينصحك يوما واحدا و لم يعمل وراء بابك بشي ء مما في كتاب الله و لا في سنة نبيه قال أبو جعفر فما أصنع قد قلت لك خاتمي في يدك فهلم أنت و أصحابك فاكفني فقال عمرو دعنا بعدلك نسخ بأنفسنا بعونك و ببابك مظالم كثيرة فارددها نعلم أنك صادق.(19/125)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 148و قال ابن قتيبة في الكتاب المذكور و قد قام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك بنحو هذا قال له إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فيه بعض الغلظة فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب قال قل قال إني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن من عظتك تأدية لحق الله إنك قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياهم بدينهم فهم حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا و الأمة خسفا و أنت مسئول عما اجترحوا و ليسوا مسئولين عما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره قال فقال سليمان أما أنت يا أعرابي فإنك قد سللت علينا عاجلا لسانك و هو أقطع سيفيك فقال أجل لقد سللته و لكن لك لا عليك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 32149فَاعِلُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ وَ فَاعِلُ الشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ
قد نظمت أنا هذا اللفظ و المعنى فقلت في جملة أبيات لي
خير البضائع للإنسان مكرمة تنمي و تزكو إذا بارت بضائعه فالخير خير و خير منه فاعله و الشر شر و شر منه صانعه
فإن قلت كيف يكون فاعل الخير خيرا من الخير و فاعل الشر شرا من الشر مع أن فاعل الخير إنما كان ممدوحا لأجل الخير و فاعل الشر إنما كان مذموما لأجل الشر فإذا كان الخير و الشر هما سببا المدح و الذم و هما الأصل في ذلك فكيف يكون فاعلاهما خيرا و شرا منهما. قلت لأن الخير و الشر ليسا عبارة عن ذات حية قادرة و إنما هما فعلان أو فعل و عدم فعل أو عدمان فلو قطع النظر عن الذات الحية القادرة التي يصدران عنها لما انتفع أحد بهما و لا استضر فالنفع و الضرر إنما حصلا من الحي الموصوف بهما لا منهما على انفرادهما فلذلك كان فاعل الخير خيرا من الخير و فاعل الشر شرا من الشر(19/126)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 33150كُنْ سَمَحاً وَ لَا تَكُنْ مُبَذِّراً وَ كُنْ مُقَدِّراً وَ لَا تَكُنْ مُقَتِّراً
كل كلام جاء في هذا فهو مأخوذ من قوله سبحانه وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. و نحو قوله إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 34151أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى قد سبق منا قول كثير في المنى و نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك. سئل عبيد الله بن أبي بكر أي شي ء أدوم متاعا فقال المنى. و قال بلال بن أبي بردة ما يسرني بنصيبي من المنى حمر النعم. و كان يقال الأماني للنفس كالرونق للبصر. و من كلام بعض الحكماء الأماني تعمي أعين البصائر و الحظ يأتي من لا يأتيه و ربما كان الطمع وعاء حشوه المتالف و سائقا يدعو إلى الندامة و أشقى الناس بالسلطان صاحبه كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها إحراقا و لا يدرك الغني بالسلطان إلا نفس خائفة و جسم تعب و دين منكتم و إن كان البحر كدر الماء فهو بعيد الهواء
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 35152مَنْ أَسْرَعَ إِلَى النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ قَالُوا فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ(19/127)


هذا المعنى كثير واسع و لنقتصر هاهنا فيه على حكاية ذكرها المبرد في الكامل قال لما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله و إلى آلات لم ير مثلها فأراد أن يري الناس عظيم ما أنعم الله به عليه و يعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم فأمر بدار ففرشت و في صحنها قدور يرتقى إليها بالسلالم فإذا الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل و الناس جلوس على مراتبهم و الحضين شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة ائذن لي في معاتبته قال لا ترده لأنه خبيث الجواب فأبى عبد الله إلا أن يأذن له و كان عبد الله يضعف و قد كان تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك فأقبل على الحضين فقال أ من الباب دخلت يا أبا ساسان شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 153قال أجل أسن عمك عن تسور الحيطان قال أ رأيت هذه القدور قال هي أعظم من ألا ترى قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قال أجل و لا غيلان و لو كان رآها سمي شبعان و لم يسم غيلان قال له عبد الله يا أبا ساسان أ تعرف الذي يقول
عزلنا و أمرنا و بكر بن وائل تجر خصاها تبتغي من تحالفه
قال أجل أعرفه و أعرف الذي يقول
بأدنى العزم قاد بني قشير و من كانت له أسرى كلاب و خيبة من يخيب على غني و باهلة بن يعصر و الركاب
يريد يا خيبة من يخيب قال أ فتعرف الذي يقول
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال نعم أعرفه و أعرف الذي يقول
قوم قتيبة أمهم و أبوهم لو لا قتيبة أصبحوا في مجهل(19/128)


قال أما الشعر فأراك ترويه فهل تقرأ من القرآن شيئا قال أقرأ منه الأكثر الأطيب هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فأغضبه فقال و الله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه و هي حبلى من غيره شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 154قال فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى ثم قال على رسله و ما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال فلان بن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم فأقبل قتيبة على عبد الله و قال لا يبعد الله غيرك. قلت هو الحضين بالضاد المعجمة و ليس في العرب من اسمه الحضين بالضاد المعجمة غيره
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 36155مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ
قد تقدم منا كلام في الأمل. و قيل لبعض الصالحين أ لك حاجة إلى بغداد قال ما أحب أن أبسط أملي حتى تذهب إلى بغداد و تعود. و قال أبو عثمان النهدي قد أتت علي ثلاثون و مائة سنة ما من شي ء إلا و أجد فيه النقص إلا أملي فإني وجدته كما هو أو يزيد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 37156وَ قَالَ ع وَ قَدْ لَقِيَهُ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ دَهَاقِينُ الْأَنْبَارِ فَتَرَجَّلُوا لَهُ وَ اشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ فَقَالُوا خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا فَقَالَ وَ اللَّهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا أُمَرَاؤُكُمْ وَ إِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَ تَشْقَوْنَ بِهِ فِي أُخْرَاكُمْ وَ مَا أَخْسَرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ وَ أَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الْأَمَانُ مِنَ النَّارِ(19/129)

71 / 150
ع
En
A+
A-