و اعلم أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين ع إليه هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العرفي وزيرا لأنه صاحب تدبير حضرة الأمير و النائب عنه في أموره و إليه تصل مكتوبات العمال و عنه تصدر الأجوبة و إليه العرض على الأمير و هو المستدرك على العمال و المهيمن عليهم و هو على الحقيقة كاتب الكتاب و لهذا يسمونه الكاتب المطلق. و كان يقال للكاتب على الملك ثلاث رفع الحجاب عنه و اتهام الوشاة عليه و إفشاء السر إليه. و كان يقال صاحب السلطان نصفه و كاتبه كله و ينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس و يديم العبوس و يستخف بالشفاعات. شرح نج البلاغة ج : 17 ص : 80و كان يقال إذا كان الملك ضعيفا و الوزير شرها و القاضي جائرا فرقوا الملك شعاعا. و كان يقال لا تخف صولة الأمير مع رضا الكاتب و لا تثقن برضا الأمير مع سخط الكاتب و أخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال و زعمت أنك لست تفكر بعد ما علقت يداك بذمة الأمراءهيهات قد كذبتك فكرتك التي قد أوهمتك غنى عن الوزراءلم تغن عن أحد سماء لم تجد أرضا و لا أرض بغير سماء
و كان يقال إذا لم يشرف الملك على أموره صار أغش الناس إليه وزيره. و كان يقال ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح الملك من تضييع مراتب الكتاب حتى يصيبها أهل النذالة و يزهد فيها أولو الفضل
فصل في ذكر ما نصحت به الأوائل الوزراء(18/68)
و كان يقال لا شي ء أذهب بالدول من استكفاء الملك الأسرار. و كان يقال من سعادة جد المرء ألا يكون في الزمان المختلط وزيرا للسلطان. و كان يقال كما أن أشجع الرجال يحتاج إلى السلاح و أسبق الخيل يحتاج إلى السوط و أحد الشفار يحتاج إلى المسن كذلك أحزم الملوك و أعقهم يحتاج إلى الوزير الصالح. و كان يقال صلاح الدنيا بصلاح الملوك و صلاح الملوك بصلاح الوزراء شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 81و كما لا يصلح الملك إلا بمن يستحق الملك كذلك لا تصلح الوزارة إلا بمن يستحق الوزارة. و كان يقال الوزير الصالح لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحا حتى يتصل بصلاح الملك و صلاح رعيته و أن تكون عنايته فيما عطف الملك على رعيته و في استعطف قلوب الرعية و العامة على الطاعة للملك و فيما فيه قوام أمر الملك من التدبير الحسن حتى يجمع إلى أخذ الحق تقديم عموم الأمن و إذا طرقت الحوادث كان للملك عدة و عتادا و للرعية كافيا محتاطا و من ورائها محاميا ذابا يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها. و كان يقال مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسدا مثل الماء العذب الصافي و فيه التمساح لا يستطيع الإنسان و إن كان سابحا و إلى الماء ظامئا دخوله حذرا على نفسه. قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي حين استخلف لو كنت كاتبي و ردءا لي على ما دفعت إليه قال لا أفعل و لكني سأرشدك أسرع الاستماع و أبطئ في التصديق حتى يأتيك واضح البرهان و لا تعملن ثبجتك فيما تكتفي فيه بلسانك و لا سوطك فيما تكتفي فيه بثبجتك و لا سيفك فيما تكتفي فيه بسوطك. و كان يقال التقاط الكاتب للرشا و ضبط الملك لا يجتمعان. و قال أبرويز لكاتبه اكتم السر و اصدق الحديث و اجتهد في النصيحة و عليك بالحذر فإن لك علي ألا أعجل عليك حتى أستأني لك و لا أقبل فيك قولا حتى أستيقن و لا أطمع فيك أحدا فتغتال و اعلم أنك بمنجاة رفعة فلا تحطنها و في شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 82ظل(18/69)
مملكة فلا تستزيلنه قارب الن مجاملة من نفسك و باعدهم مسامحة عن عدوك و اقصد إلى الجميل ازدراعا لغدك و تنزه بالعفاف صونا لمروءتك و تحسن عندي بما قدرت عليه احذر لا تسرعن الألسنة عليك و لا تقبحن الأحدوثة عنك و صن نفسك صون الدرة الصافية و أخلصها إخلاص الفضة البيضاء و عاتبها معاتبة الحذر المشفق و حصنها تحصين المدينة المنيعة لا تدعن أن ترفع إلى الصغير فإنه يدل على الكبير و لا تكتمن عني الكبير فإنه ليس بشاغل عن الصغير هذب أمورك ثم القني بها و احكم أمرك ثم راجعني فيه و لا تجترئن علي فأمتعض و لا تنقبضن مني فأتهم و لا تمرضن ما تلقاني به و لا تخدجنه و إذا أفكرت فلا تجعل و إذا كتبت فلا تعذر و لا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية و لا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة و لا تلبس كلاما بكلام و لا تبعدن معنى عن معنى و أكرم لي كتابك عن ثلاث خضوع يستخفه و انتشار يهجنه و معان تعقد به و اجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول و ليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك الذي تحدثه على الملوك لا يكن ما نلته عظيما و ما تتكلم به صغيرا فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك فاجعله عاليا كعلوه و فائقا كتفوقه فإنما جماع الكلام كله خصال أربع سؤالك الشي ء و سؤاك عن الشي ء و أمرك بالشي ء و خبرك عن الشي ء فهذه الخصال دعائم المقالات إن التمس إليها خامس لم يوجد و إن نقص منها واحد لم يتم فإذا أمرت فاحكم و إذا سألت فأوضح و إذا طلبت فأسمح و إذا أخبرت فحقق فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله فلم يشتبه عليك واردةلم تعجزك صادرة أثبت في دواوينك ما أخذت و أحص فيها ما أخرجت و تيقظ لما تعطي و تجرد لما تأخذ و لا يغلبنك النسيان عن الإحصاء و لا الأناة عن التقدم و لا تخرجن(18/70)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 83وزن قيراط في غير حق و لا تعظمن إخراج الألوف الكثيرة في الحق و ليكن ذلك كله عن مؤامرتيثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَيْراً الْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَ جُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ فِي بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ وَ حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَ لَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ وَ صُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَ فِي حَوَاشِي بِلَادِكَ وَ اعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وَ شُحّاً قَبِيحاً وَ احْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وَ عَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص مَنَعَ مِنْهُ وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَ أَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وَ عَاقِبْهُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ
خرج ع الآن إلى ذكر التجار و ذوي الصناعات و أمره بأن يعمل معهم الخير و أن يوصى غيره من أمرائه و عماله أن يعملوا معهم الخير و استوص بمعنى أوص شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 84نحو قر في المكان و استقر و علا قرنه و استعلاه. و قوله استوص بالتجار خيرا أي أوص نفسك لك و منه
قول النبي ص استوصوا بالنساء خيرا(18/71)
و مفعولا استوص و أوص هاهنا محذوفان للعلم بهما و يجوز أن يكون استوص أي اقبل الوصية مني بهم و أوص بهم أنت غيرك. ثم قسم ع الموصى بهم ثلاثة أقسام اثنان منها للتجار و هما المقيم و المضطرب يعني المسافر و الضرب السير في الأرض قال تعالى إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ و واحد لأرباب الصناعات و هو قوله و المترفق ببدنه و روي بيديه تثنية يد. و المطارح الأماكن البعيدة. و حيث لا يلتئم الناس لا يجتمعون و روي حيث لا يلتئم بحذف الواو ثم قال فإنهم أولو سلم يعني التجار و الصناع استعطفه عليهم و استماله إليهم. و قال ليسوا كعمال الخراج و أمراء الأجناد فجانبهم ينبغي أن يراعى و حالهم يجب أن يحاط و يحمى إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه و لا في دولة يفسدونها و حواشي البلاد أطرافها. ثم قال له قد يكون في كثير منهم نوع من الشح و البخل فيدعوهم ذلك إلى الاحتكار في الأقوات و الحيف في البياعات و الاحتكار ابتياع الغلات في أيام شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 85رخصها و ادخارها في المخازن إلى أيام الغلاء و القحط و الحيف تطفيف في الوزن و الكيل و زيادة في السعر و هو الذي عبر عنه بالتحكم و قد نهى رسول الله ص عن الاحتكار و أما التطفيف و زياد تسعير فمنهي عنهما في نص الكتاب. و قارف حكرة واقعها و الحاء مضمومة و أمره أن يؤدب فاعل ذلك من غير إسراف و ذلك أنه دون المعاصي التي توجب الحدود فغاية أمره من التعزير الإهانة و المنع(18/72)