و كان يقال الفرصة ما إذا حاولته فأخطأك نفعه لم يصل إليك ضره. و من كلام ابن المقفع انتهز الفرصة في إحراز المآثر و اغتنم الإمكان باصطناع الخير و لا تنتظر ما تعامل فتجازى عنه بمثله فإنك إن عوملت بمكروه و اشتغلت برصد المكافأة عنه قصر العمر بك عن اكتساب فائدة و اقتناء منقبة و تصرمت أيامك بين تعد عليك و انتظار للظفر بإدراك الثأر من خصمك و لا عيشة في الحياة أكثر من ذلك. كانت العرب إذا أوفدت وافدا قالت له إياك و الهيبة فإنها خيبة و لا تبت عند ذنب الأمر و بت عند رأسه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 22132لَنَا حَقٌّ فَإِنْ أُعْطِيْنَاهُ وَ إِلَّا رَكِبْنَا أَعْجَازَ الْإِبِلِ وَ إِنْ طَالَ السُّرَى
قال الرضي رحمه الله تعالى و هذا القول من لطيف الكلام و فصيحه و معناه أنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء و ذلك أن الرديف يركب عجز البعير كالعبد و الأسير و من يجري مجراهما(19/115)


هذا الفصل قد ذكره أبو عبيد الهروي في الجمع بين الغريبين و صورته أن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى قال قد فسروه على وجهين أحدهما أن راكب عجز البعير يلحقه مشقة و ضرر فأراد أنا إذا منعنا حقنا صبرنا على المشقة و المضرة كما يصبر راكب عجز البعير و هذا التفسير قريب مما فسره الرضي و الوجه الثاني أن راكب عجز البعير إنما يكون إذا كان غيره قد ركب على ظهر البعير و راكب ظهر البعير متقدم على راكب عجز البعير فأراد أنا إذا منعنا حقنا تأخرنا و تقدم غيرنا علينا فكنا كالراكب رديفا لغيره و أكد المعنى على كلا التفسيرين بقوله و إن طال السرى لأنه إذا طال السرى كانت المشقة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 133على راكب عجز البعير أعظم و كان الصبر على تأخر راكب عجز البعير عن الراكب على ظهره أشد و أصعب. و هذا الكلام تزعم الإمامية أنه قاله يوم السقيفة أو في تلك الأيام و يذهب أصحابنا إلى أنه قاله يوم الشورى بعد وفاة عمر و اجتماع الجماعة لاختيار واحد من الستة و أكثر أرباب السير ينقلونه على هذا الوجه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 23134مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ حَسَبُهُ
هذا الكلام حث و حض و تحريض على العبادة و قد تقدم أمثاله و سيأتي له نظائر كثيرة و هو مثل
قول النبي ص يا فاطمة بنت محمد إني لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب إني لا أغني عنك من الله شيئا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 24135مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ وَ التَّنْفِيسُ عَنِ الْمَكْرُوبِ(19/116)


قد جاء في هذا المعنى آثار كثيرة و أخبار جميلة كان العتابي قد أملق فجاء فوقف بباب المأمون يسترزق الله على يديه فوافى يحيى بن أكثم فعرض له العتابي فقال له إن رأيت أيها القاضي أن تعلم أمير المؤمنين مكاني فافعل فقال لست بحاجب قال قد علمت و لكنك ذو فضل و ذو الفضل معوان فقال سلكت بي غير طريقي قال إن الله أتحفك منه بجاه و نعمة و هو مقبل عليك بالزيادة إن شكرت و بالتغيير إن كفرت و أنا لك اليوم خير منك لنفسك لأني أدعوك إلى ما فيه ازدياد نعمتك و أنت تأبى علي و لكل شي ء زكاة و زكاة الجاه رفد المستعين فدخل يحيى فأخبر المأمون به فأحضره و حادثه و لاطفه و وصله
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 25136يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا رَأَيْتَ رَبَّكَ سُبْحَانَهُ يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَ أَنْتَ تَعْصِيهِ فَاحْذَرْهُ
هذا الكلام تخويف و تحذير من الاستدراج قال سبحانه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ و ذلك لأن العبد بغروره يعتقد أن موالاة النعم عليه و هو عاص من باب الرضا عنه و لا يعلم أنه استدراج له و نقمة عليه. فإن قلت كيف يصح القول بالاستدراج على أصولكم في العدل أ ليس معنى الاستدراج إيهام العبد أنه سبحانه غير ساخط فعله و معصيته فهل هذا الاستدراج إلا مفسدة و سبب إلى الإصرار على القبيح. قلت إذا كان المكلف عالما بقبح القبيح أو متمكنا من العلم بقبحه ثم رأى النعم تتوالى عليه و هو مصر على المعصية كان ترادف تلك النعم كالمنبه له على وجوب الحذر مثال ذلك من هو في خدمة ملك و هو عون ذلك الملك في دولته و يعلم أن الملك قد عرف حاله ثم يرى نعم الملك مترادفة إليه فإنه يجب بمقتضى الاحتياط أن يشتد حذره لأنه يقول ليست حالي مع الملك حال من يستحق هذه النعم و ما هذه إلا مكيدة و تحتها غائلة فيجب إذن عليه أن يحذر(19/117)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 26137مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ
قال زهير بن أبي سلمى
و مهما تكن عند امرئ من خليقة و إن خالها تخفى على الناس تعلم
و قال آخر
تخبرني العينان ما القلب كاتم و ما جن بالبغضاء و النظر الشزر
و قال آخر
و في عينيك ترجمة أراها تدل على الضغائن و الحقودو أخلاق عهدت اللين فيها غدت و كأنها زبر الحديدو قد عاهدتني بخلاف هذا و قال الله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
و كان يقال العين و الوجه و اللسان أصحاب أخبار على القلب و قالوا القلوب كالمرايا المتقابلة إذا ارتسمت في إحداهن صورة ظهرت في الأخرى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 27138امْشِ بِدَائِكَ مَا مَشَى بِكَ
يقول مهما وجدت سبيلا إلى الصبر على أمر من الأمور التي قد دفعت إليها و فيها مشقة عليك و ضرر لاحق بك فاصبر و لا تلتمس طريقا إلى تغيير ما دفعت إليه أن تسلكها بالعنف و مراغمة الوقت و معاناة الأقضية و الأقدار و مثال ذلك من يعرض له مرض ما يمكنه أن يحتمله و يدافع الوقت فإنه يجب عليه ألا يطرح جانبه إلى الأرض و يخلد إلى النوم على الفراش ليعالج ذلك المرض قوة و قهرا فربما أفضى به مقاهرة ذلك المرض الصغير بالأدوية إلى أن يصير كبيرا معضلا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 28139أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ إنما كان كذلك لأن الجهر بالعبادة و الزهادة و الإعلان بذلك قل أن يسلم من مخالطة الرياء و قد تقدم لنا في الرياء أقوال مقنعة. رأى المنصور رجلا واقفا ببابه فقال مثل هذا الدرهم بين عينيك و أنت واقف ببابنا فقال الربيع نعم لأنه ضرب على غير السكة. شاعر
معشر أثبت الصلاة عليهم لجباه يشقها المحراب عمروا موضع التصنع منهم و مكان الإخلاص منهم خراب
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 29140إِذَا كُنْتَ فِي إِدْبَارٍ وَ الْمَوْتُ فِي إِقْبَالٍ فَمَا أَسْرَعَ الْمُلْتَقَى(19/118)


هذا ظاهر لأنه إذا كان كلما جاء ففي إدبار و الموت كلما جاء ففي إقبال فيا سرعان ما يلتقيان و ذلك لأن إدباره هو توجهه إلى الموت و إقبال الموت هو توجه الموت إلى نحوه فقد حق إذن الالتقاء سريعا و مثال ذلك سفينتان بدجلة أو غيرها تصعد إحداهما و الأخرى تنحدر نحوها فلا ريب إن الالتقاء يكون وشيكا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 30141الْحَذَرَ الْحَذَرَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَتَرَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ غَفَرَ
قد تقدم هذا المعنى و هو الاستدراج الذي ذكرناه آنفا(19/119)

69 / 150
ع
En
A+
A-