فأما القول في الخضاب فقد روى قوم أن رسول الله ص بدا شيب يسير في لحيته فغيره بالخضاب خضب بالحناء و الكتم و قال قوم لم يشب أصلا. و روي أن عائشة قالت ما كان الله ليشينه بالشيب فقيل أ و شين هو يا أم المؤمنين قالت كلكم يكرهه و أما أبو بكر فصح الخبر عنه بذلك و كذلك أمير المؤمنين و قيل إنه لم يخضب و قتل الحسين ع يوم الطف و هو مخضوب و
في الحديث المرفوع رواه عقبة بن عامر عليكم بالحناء فإنه خضاب الإسلام إنه يصفي البصر و يذهب بالصداع و يزيد في الباه و إياكم و السواد فإنه من سود سود الله وجهه يوم القيامة
و عنه ص عليكم بالخضاب فإنه أهيب لعدوكم و أعجب إلى نسائكم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 124و يقال في أبواب الكناية للمختضب هو يسود وجه النذير لأن النذير الشيب قيل في قوله تعالى وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ إنه الشيب. و كان عبد الرحمن بن الأسود أبيض الرأس و اللحية فأصبح ذات يوم و قد حمرهما و قال إن عائشة أرسلت إلى البارحة جاريتها فأقسمت علي لأغيرن و قالت إن أبا بكر كان يصبغ. و روى قيس بن أبي حازم قال كان أبو بكر يخرج إلينا و كان لحيته ضرام عرفج. و عن أبي عامر الأنصاري رأيت أبا بكر يغير بالحناء و الكتم و رأيت عمر لا يغير شيئا من شيبه و
قال إني سمعت رسول الله ص يقول من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة
و لا أحب أن أغير نوري. و كان أنس بن مالك يخضب و ينشد
نسود أعلاها و تأبى أصولها و ليس إلى رد الشباب سبيل
و روي أن عبد المطلب وفد على سيف بن ذي يزن فقال له لو خضبت فلما عاد إلى مكة خضب فقالت له امرأته نثيلة أم العباس و ضرار ما أحسن هذا الخضاب لو دام فقال
فلو دام لي هذا الخضاب حمدته و كان بديلا من خليل قد انصرم تمتعت منه و الحياة قصيرة و لا بد من موت نثيلة أو هرم و موت جهيز عاجل لا شوى له أحب إلينا من مقالكم حكم
قال يعني إنه صار شيخا فصار حكما بين الناس من قوله(19/110)
لا تغبط المرء أن يقال له أضحى فلان لسنه حكما
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 125و قال أسماء بن خارجة لجاريته اخضبيني فقالت حتى متى أرقعك فقال
عيرتني خلقا أبليت جدته و هل رأيت جديدا لم يعد خلقا
و أما من يروى أن عليا ع ما خضب فيحتج بقوله و
قد قيل له لو غيرت شيبك يا أمير المؤمنين فقال الخضاب زينة و نحن في مصيبة
يعني برسول الله ص. و
سئل الحسن ع عن الخضاب فقال هو جزع قبيح
و قال محمود الوراق
يا خاضب الشيب الذي في كل ثالثة يعودإن الخضاب إذا مضى فكأنه شيب جديدفدع المشيب و ما يريد فلن تعود كما تريد
و قد روى قوم عن النبي ص كراهية الخضاب و أنه قال لو استقبلتم الشيب بالتواضع لكان خيرا لكم
قال الشاعر
و صبغت ما صبغ الزمان فلم يدم صبغي و دامت صبغة الأيام
و قال آخر
يا أيها الرجل المغير شيبه كيما تعد به من الشبان أقصر فلو سودت كل حمامة بيضاء ما عدت من الغربان
و يقولون في ديوان عرض الجيش ببغداد لمن يخضب إذا ذكروا حليته مستعار و هي كناية لطيفة و أنا أستحسن قول البحتري خضبت بالمقراض كناية عن قص الشعر الأبيض فجعل ذلك خضابه عوضا عن الصبغ و الأبيات هذه
لابس من شبيبة أم ناض و مليح من شيبة أم راض
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 126و إذا ما امتعضت من ولع الشيب برأسي لم يثن ذاك امتعاضي ليس يرضى عن الزمان امرؤ فيه إلا عن غفلة أو تغاضي و البواقي من الليالي و إن خالفن شيئا شبيهة بالمواضي و أبت تركي الغديات و الآصال حتى خضبت بالمقراض و دواء المشيب كالبخص في عيني فقل فيه في العيون المراض طال حزني على الشباب و ما بيض من لون صبغه الفضفاض فهل الحادثات يا ابن عويف تاركاتي و لبس هذا البياض
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 19127مَنْ جَرَى فِي عِنَان أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجلِهِ
قد تقدم لنا قول كثير في الأمل و نذكر هاهنا زيادة على ذلك.(19/111)
قال الحسن ع لو رأيت الأجل و مسيره لنسيت الأمل و غروره و يقدر المقدرون و القضاء يضحك
و روى أبو سعيد الخدري أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر فقال رسول الله ص أ لا تعجبون من أسامة يشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل
أبو عثمان النهدي قد بلغت نحوا من ثلاثين و مائة سنة فما من شي ء إلا قد عرفت فيه النقص إلا أملى فإنه كما كان. قال الشاعر
أراك تزيدك الأيام حرصا على الدنيا كأنك لا تموت فهل لك غاية إن صرت يوما إليها قلت حسبي قد رضيت
و قال آخر
من تمنى المنى فأغرق فيها مات من قبل أن ينال مناه ليس في مال من تتابع في اللذات فضل عن نفسه لسواه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 20128أَقِيلُوا ذَوِي الْمُرُوءَاتِ عَثَرَاتِهِمْ فَمَا يَعْثُرُ مِنْهُمْ عَاثِرٌ إِلَّا وَ يَدُهُ بِيَدِ اللَّهِ يَرْفَعُهُ
نبذ مما قيل في المروءة
قد رويت هذه الكلمة مرفوعة ذكر ذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار و أحسن ما قيل في المروءة قولهم اللذة ترك المروءة و المروءة ترك اللذة. و
في الحديث أن رجلا قام إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أ لست أفضل قومي فقال إن كان لك عقل فلك فضل و إن كان لك خلق فلك مروءة و إن كان لك مال فلك حسب و إن كان لك تقى فلك دين
و سئل الحسن عن المروءة فقال
جاء في الحديث المرفوع أن الله تعالى يحب معالي الأمور و يكره سفسافها
و كان يقال من مروءة الرجل جلوسه بباب داره. و قال الحسن لا دين إلا بمروءة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 129و قيل لابن هبيرة ما المروءة فقال إصلاح المال و الرزانة في المجلس و الغداء و العشاء بالفناء. و
جاء أيضا في الحديث المرفوع حسب الرجل ماله و كرمه دينه و مروءته خلقه(19/112)
و كان يقال ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق. و يقال سرعة المشي تذهب بمروءة الرجل. و قال معاوية لعمرو ما ألذ الأشياء قال مر فتيان قريش أن يقوموا فلما قاموا قال إسقاط المروءة. و كان عروة بن الزبير يقول لبنيه يا بني العبوا فإن المروءة لا تكون إلا بعد اللعب و قيل للأحنف ما المروءة قال العفة و الحرفة تعف عما حرم الله و تحترف فيما أحل الله. و قال محمد بن عمران التيمي لا أشد من المروءة و هي ألا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية و سئل النظام عن المروءة فأنشد بيت زهير
الستر دون الفاحشات و لا يلقاك دون الخير من ستر(19/113)
و قال عمر تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة و تعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت به. و قال ميمون بن مهران أول المروءة طلاقة الوجه و الثاني التودد إلى الناس و الثالث قضاء الحوائج. و قال مسلمة بن عبد الملك مروءتان ظاهرتان الرياش و الفصاحة. و كان يقال تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه. و كان يقال العقل يأمرك بالأنفع و المروءة تأمرك بالأجمل. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 130لام معاوية يزيد ابنه على سماع الغناء و حب القيان و قال له أسقطت مروءتك فقال يزيد أتكلم بلساني كلمة قال نعم و بلسان أبي سفيان بن حرب و هند بنت عتبة مع لسانك قال و الله لقد حدثني عمرو بن العاص و استشهد على ذلك ابنه عبد الله بصدقه أن أبا سفيان كان يخلع على المغني الفاضل و المضاعف من ثيابه و لقد حدثني أن جاريتي عبد الله بن جدعان غنتاه يوما فأطربتاه فجعل يخلع عليهما أثوابه ثوبا ثوبا حتى تجرد تجرد العير و لقد كان هو و عفان بن أبي العاص ربما حملا جارية العاص بن وائل على أعناقهما فمرا بها على الأبطح و جلة قريش ينظرون إليهما مرة على ظهر أبيك و مرة على ظهر عفان فما الذي تنكر مني فقال معاوية اسكت لحاك الله و الله ما أحد ألحق بأبيك هذا إلا ليغرك و يفضحك و إن كان أبو سفيان ما علمت لثقيل الحلم يقظان الرأي عازب الهوى طويل الأناة بعيد القعر و ما سودته قريش إلا لفضله
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 21131قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ وَ الْحَيَاءُ بِالْحِرْمَانِ وَ الْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَيْرِ
في المثل من أقدم لم يندم و قال الشاعر
ليس للحاجات إلا من له وجه وقاح و لسان طرمذي و غدو و رواح فعليه السعي فيها و على الله النجاح(19/114)