وقف ملك على سقراط و هو في المشرفة قد أسند ظهره إلى جب كان يأوي إليه فقال له سل حاجتك فقال حاجتي أن تتنحى عني فقد منعني ظلك المرفق بالشمس فسأله عن الجب قال آوي إليه قال فإن انكسر الجب لم ينكسر المكان. و كان يقال الزهد في الدنيا هو الزهد في المحمدة و الرئاسة لا في المطعم و المشرب و عند العارفين الزهد ترك كل شي ء يشغلك عن الله. و كان يقال العالم إذا لم يكن زاهدا لكان عقوبة لأهل زمانه لأنهم يقولون لو لا أن علمه لم يصوب عنده الزهد لزهد فهم يقتدون بزهده في الزهد. الفصل الرابع قوله و الورع جنة كان يقال لا عصمة كعصمة الورع و العبادة أما الورع فيعصمك من المعاصي و أما العبادة فتعصمك من خصمك فإن عدوك لو رآك قائما تصلي و قد دخل ليقتلك لصد عنك و هابك. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 92و قال رجل من بني هلال لبنيه يا بني أظهروا النسك فإن الناس إن رأوا من أحد منكم بخلا قالوا مقتصد لا يحب الإسراف و إن رأوا عيا قالوا متوق يكره الكلام و إن رأوا جبنا قالوا متحرج يكره الإقدام على الشبهات. الفصل الخامس قوله و نعم القرين الرضا قد سبق منا قول مقنع في الرضا. و قال أبو عمرو بن العلاء دفعت إلى أرض مجدبة بها نفر من الأعراب فقلت لبعضهم ما أرضكم هذه قال كما ترى لا زرع و لا ضرع قلت فكيف تعيشون قالوا نحترش الضباب و نصيد الدواب قلت فكيف صبركم على ذلك قالوا يا هذا سل خالق الخلق هل سويت فقال بل رضيت. و كان يقال من سخط القضاء طاح و من رضي به استراح. و كان يقال عليك بالرضا و لو قلبت على جمر الغضا. و
في الخبر المرفوع أنه ص قال عن الله تعالى من لم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 593الْعِلْمُ وِرَاثَةٌ كَرِيمَةٌ وَ الآْدَابُ حُلَلٌ مُجَدَّدَةٌ وَ الْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ(19/90)
إنما قال العلم وراثة لأن كل عالم من البشر إنما يكتسب علمه من أستاذ يهذبه و موقف يعلمه فكأنه ورث العلم عنه كما يرث الابن المال عن أبيه و قد سبق منا كلام شاف في العلم و الأدب. و كان يقال عطية العالم شبيهة بمواهب الله عز و جل لأنها لا تنفد عند الجود بها و تبقى بكمالها عند مفيدها. و كان يقال الفضائل العلمية تشبه النخل بطي ء الثمرة بعيد الفساد. و كان يقال ينبغي للعالم ألا يترفع على الجاهل و أن يتطامن له بمقدار ما رفعه الله عليه و ينقله من الشك إلى اليقين و من الحيرة إلى التبيين لأن مكافحته قسوة و الصبر عليه و إرشاده سياسة. و مثاله قول بعض الحكماء الخير من العلماء من يرى الجاهل بمنزلة الطفل الذي هو بالرحمة أحق منه بالغلظة و يعذره بنقصه فيما فرط منه و لا يعذر نفسه في التأخر عن هدايته. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 94و كان يقال العلم في الأرض بمنزلة الشمس في الفلك لو لا الشمس لأظلم الجو و لو لا العلم لأظلم أهل الأرض. و كان يقال لا حلة أجمل من حلة الأدب لأن حلل الثياب تبلى و حلل الأدب تبقى و حلل الثياب قد يغتصبها الغاصب و يسرقها السارق و حلل الآداب باقية مع جوهر النفس. و كان يقال الفكرة الصحيحة أصطرلاب روحاني. و قال أوس بن حجر يرثي
إن الذي جمع السماحة و النجدة و الحزم و النهي جمعاالألمعي الذي يظن بك الظن كان قد رأى و قد سمعا(19/91)
و من كلام الحكماء النار لا ينقصها ما أخذ منها و لكن يخمدها ألا تجد حطبا و كذلك العلم لا يفنيه الاقتباس و لكن فقد الحاملين له سبب عدمه. قيل لبعضهم أي العلوم أفضل قال ما العامة فيه أزهد. و قال أفلاطون من جهل الشي ء و لم يسأل عنه جمع على نفسه فضيحتين. و كان يقال ثلاثة لا تجربة معهن أدب يزين و مجانبة الريبة و كف الأذى. و كان يقال عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر و مؤنس في الوحدة و جمال في المحفل و سبب إلى طلب الحاجة. و كان عبد الملك أديبا فاضلا و لا يجالس إلا أديبا. و روى الهيثم بن عدي عن مسعر بن كدام قال حدثني سعيد بن خالد الجدلي شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 95قال لما قدم عبد الملك الكوفة بعد قتل مصعب دعا الناس يعرضهم على فرائضهم فحضرنا بين يديه فقال من القوم قلنا جديلة فقال جديلة عدوان قلنا نعم فأنشده
عذير الحي من عدوان كانوا حية الأرض بغى بعضهم بعضا فلم يرعوا على بعض و منهم كانت السادات و الموفون بالقرض و منهم حكم يقضي فلا ينقض ما يقضي و منهم من يجيز الناس بالسنة و الفرض
ثم أقبل على رجل منا وسيم جسيم قدمناه أمامنا فقال أيكم يقول هذا الشعر قال لا أدري فقلت أنا من خلفه يقوله ذو الإصبع فتركني و أقبل على ذلك الرجل الجسيم فقال ما كان اسم ذي الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه اسمه حرثان فتركني و أقبل عليه فقال له و لم سمي ذا الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه نهشته حية في إصبعه فأقبل عليه و تركني فقال من أيكم كان فقال لا أدري فقلت أنا من خلفه من بني تاج الذين يقول الشاعر فيهم
فأما بنو تاج فلا تذكرنهم و لا تتبعن عيناك من كان هالكا(19/92)
فأقبل على الجسيم فقال كم عطاؤك قال سبعمائة درهم فأقبل علي و قال و كم عطاؤك أنت قلت أربعمائة فقال يا أبا الزعيزعة حط من عطاء هذا ثلاثمائة و زدها في عطاء هذا فرحت و عطائي سبعمائة و عطاؤه أربعمائة. و أنشد منشد بحضرة الواثق هارون بن المعتصم شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 96
أ ظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
فقال شخص رجل هو خبر إن و وافقه على ذلك قوم و خالفه آخرون فقال الواثق من بقي من علماء النحويين قالوا أبو عثمان المازني بالبصرة فأمر بإشخاصه إلى سر من رأى بعد إزاحة علته قال أبو عثمان فأشخصت فلما أدخلت عليه قال ممن الرجل قلت من مازن قال من مازن تميم أم من مازن ربيعة أم مازن قيس أم مازن اليمين قلت من مازن ربيعة قال باسمك بالباء يريد ما اسمك لأن لغة مازن ربيعة هكذا يبدلون الميم باء و الباء ميما فقلت مكر أي بكر فضحك و قال اجلس و اطمئن فجلست فسألني عن البيت فأنشدته منصوبا فقال فأين خبر إن فقلت ظلم قال كيف هذا قلت يا أمير المؤمنين ألا ترى أن البيت إن لم يجعل ظلم خبر إن يكون مقطوع المعنى معدوم الفائدة فلما كررت القول عليه فهم و قال قبح الله من لا أدب له ثم قال أ لك ولد قلت بنية قال فما قالت لك حين ودعتها قلت ما قالت بنت الأعشى
تقول ابنتي حين جد الرحيل أرانا سواء و من قد يتم أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم ترم أبانا إذا أضمرتك البلاد نجفى و تقطع منا الرحم
قال فما قلت لها قال قلت أنشدتها بيت جرير
ثقي بالله ليس له شريك و من عند الخليفة بالنجاح
فقال ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى ثم أمر لي بألف دينار و كسوة و ردني إلى البصرة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 697وَ صَدْرُ الْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرِّهِ وَ الْبَشَاشَةُ حِبَالَةُ الْمَوَدَّةِ وَ الِاحْتِمَالُ قَبْرُ الْعُيُوبِ وَ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضاً الْمُسَالَمَةُ خَبْ ءُ الْعُيُوبِ(19/93)
هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله صدر العاقل صندوق سره قد ذكرنا فيما تقدم طرفا صالحا في كتمان السر. و كان يقال لا تنكح خاطب سرك. قال معاوية للنجار العذري ابغ لي محدثا قال معي يا أمير المؤمنين قال نعم أستريح منك إليه و منه إليك و أجعله كتوما فإن الرجل إذا اتخذ جليسا ألقى إليه عجره و بجره. و قال بعض الأعراب لا تضع سرك عند من لا سر له عندك. و قالوا إذا كان سر الملك عند اثنين دخلت على الملك الشبهة و اتسعت على الرجلين المعاذير فإن عاقبهما عند شياعه عاقب اثنين بذنب واحد و إن اتهمهما اتهم بريئا شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 98بجناية مجرم و إن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما و لا ذنب له و عن الآخر و لا حجة عليه. الفصل الثاني قوله البشاشة حبالة المودة قد قلنا في البشر و البشاشة فيما سبق قولا مقنعا. و كان يقال البشر دال على السخاء من ممدوحك و على الود من صديقك دلالة النور على الثمر. و كان يقال ثلاث تبين لك الود في صدر أخيك تلقاه ببشرك و تبدؤه بالسلام و توسع له في المجلس. و قال الشاعر
لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسئولالا تجبهن بالرد وجه مؤمل قد رام غيرك أن يرى مأمولاتلقى الكريم فتستدل ببشره و ترى العبوس على اللئيم دليلاو اعلم بأنك عن قليل صائر خبرا فكن خبرا يروق جميلا
و قال البحتري
لو أن كفك لم تجد لمؤمل لكفاه عاجل بشرك المتهلل و لو أن مجدك لم يكن متقادما أغناك آخر سؤدد عن أول أدركت ما فات الكهول من الحجا من عنفوان شبابك المستقبل فإذا أمرت فما يقال لك اتئد و إذا حكمت فما يقال لك اعدل(19/94)