هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله صدر العاقل صندوق سره قد ذكرنا فيما تقدم طرفا صالحا في كتمان السر. و كان يقال لا تنكح خاطب سرك. قال معاوية للنجار العذري ابغ لي محدثا قال معي يا أمير المؤمنين قال نعم أستريح منك إليه و منه إليك و أجعله كتوما فإن الرجل إذا اتخذ جليسا ألقى إليه عجره و بجره. و قال بعض الأعراب لا تضع سرك عند من لا سر له عندك. و قالوا إذا كان سر الملك عند اثنين دخلت على الملك الشبهة و اتسعت على الرجلين المعاذير فإن عاقبهما عند شياعه عاقب اثنين بذنب واحد و إن اتهمهما اتهم بريئا شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 98بجناية مجرم و إن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما و لا ذنب له و عن الآخر و لا حجة عليه. الفصل الثاني قوله البشاشة حبالة المودة قد قلنا في البشر و البشاشة فيما سبق قولا مقنعا. و كان يقال البشر دال على السخاء من ممدوحك و على الود من صديقك دلالة النور على الثمر. و كان يقال ثلاث تبين لك الود في صدر أخيك تلقاه ببشرك و تبدؤه بالسلام و توسع له في المجلس. و قال الشاعر
لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسئولالا تجبهن بالرد وجه مؤمل قد رام غيرك أن يرى مأمولاتلقى الكريم فتستدل ببشره و ترى العبوس على اللئيم دليلاو اعلم بأنك عن قليل صائر خبرا فكن خبرا يروق جميلا
و قال البحتري
لو أن كفك لم تجد لمؤمل لكفاه عاجل بشرك المتهلل و لو أن مجدك لم يكن متقادما أغناك آخر سؤدد عن أول أدركت ما فات الكهول من الحجا من عنفوان شبابك المستقبل فإذا أمرت فما يقال لك اتئد و إذا حكمت فما يقال لك اعدل(19/70)


الفصل الثالث قوله الاحتمال قبر العيوب أي إذا احتملت صاحبك و حلمت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 99عنه ستر هذا الخلق الحسن منك عيوبك كما يستر القبر الميت و هذا مثل قولهم في الجود كل عيب فالكرم يغطيه. فأما الخب ء فمصدر خبأته أخبؤه و المعنى في الروايتين واحد و قد ذكرنا في فضل الاحتمال و المسالمة فيما تقدم أشياء صالحة. و
من كلامه ع وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال
و من كلامه من سالم الناس سلم منهم و من حارب الناس حاربوه فإن العثرة للكاثر
و كان يقال العاقل خادم الأحمق أبدا إن كان فوقه لم يجد من مداراته و التقرب إليه بدا و إن كان دونه لم يجد من احتماله و استكفاف شره بدا. و أسمع رجل يزيد بن عمر بن هبيرة فأعرض عنه فقال الرجل إياك أعني قال و عنك أعرض. و قال الشاعر
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت سكت عن السفيه فظن أني عييت عن الجواب و ما عييت
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7100مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ كَثُرَ السَّاخِطُ عَلَيْهِ وَ الصَّدَقَةُ دَوَاءٌ مُنْجِحٌ وَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ فِي عَاجِلِهِمْ نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ فِي آجِلِهِمْ
هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه قال بعض الفضلاء لرجل كان يرضى عن نفسه و يدعي التميز على الناس بالعلم عليك بقوم تروقهم بزبرجك و تروعهم بزخرفك فإنك لا تعدم عزا و لا تفقد غمرا لا يبلغ مسبارهما غورك و لا تستغرق أقدارهما طورك. و قال الشاعر
أرى كل إنسان يرى عيب غيره و يعمى عن العيب الذي هو فيه و ما خير من تخفى عليه عيوبه و يبدو له العيب الذي بأخيه(19/71)


و قال بعضهم دخلت على ابن منارة و بين يديه كتاب قد صنفه فقلت ما هذا قال كتاب عملته مدخلا إلى التوراة فقلت إن الناس ينكرون هذا فلو قطعت الوقت بغيره قال الناس جهال قلت و أنت ضدهم قال نعم قلت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 101فينبغي أن يكون ضدهم جاهلا عندهم قال كذاك هو قلت فقد بقيت أنت جاهلا بإجماع الناس و الناس جهال بقولك وحدك و مثل هذا المعنى قول الشاعر
إذا كنت تقضي أن عقلك كامل و أن بني حواء غيرك جاهل و أن مفيض العلم صدرك كله فمن ذا الذي يدري بأنك عاقل
الفصل الثاني الصدقة دواء منجح قد جاء في الصدقة فضل كثير و ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم و
في الحديث المرفوع تاجروا الله بالصدقة تربحوا
و قيل الصدقة صداق الجنة. و قيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم فقال أما من جهة الشرع فخمسة دراهم و أما من جهة الإخلاص فالكل. و
روى أبو هريرة عن النبي ص أنه سئل فقيل أي الصدقة أفضل فقال أن تعطي و أنت صحيح شحيح تأمل البقاء و تخشى الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا
و مثل قوله ع الصدقة دواء منجح
قول النبي ص داووا مرضاكم بالصدقة
الفصل الثالث قوله أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم هذا من قوله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 102لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً و قال تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. و من كلام بعضهم إنما تقدم على ما قدمت و لست تقدم على ما تركت فآثر ما تلقاه غدا على ما لا تراه أبدا. و من حكمة أفلاطون اكتم حسن صنيعك عن أعين البشر فإن له ممن بيده ملكوت السماء أعينا ترمقه فتجازي عليه(19/72)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 8103اعْجَبُوا لِهَذَا الْإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ وَ يَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ وَ يَسْمَعُ بِعَظْمٍ وَ يَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ
هذا كلام محمول بعضه على ظاهره لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامة بما يفهمونه و العدول عما لا تقبله عقولهم و لا تعيه قلوبهم. أما الإبصار فقد اختلف فيه فقيل إنه بخروج شعاع من العين يتصل بالمرئي و قيل إن القوة المبصرة التي في العين تلاقي بذاتها المرئيات فتبصرها و قال قوم بل بتكيف الهواء بالشعاع البصري من غير خروج فيصير الهواء باعتبار تكيفه بالشعاع به آلة العين في الإدراك. و قال المحققون من الحكماء إن الإدراك البصري هو بانطباع أشباح المرئيات في الرطوبة الجلدية من العين عند توسط الهواء الشفاف المضي ء كما تنطبع الصورة في المرآة قالوا و لو كانت المرآة ذات قوة مبصرة لأدركت الصور المنطبعة فيها و على جميع الأقوال فلا بد من إثبات القوة المبصرة في الرطوبة الجلدية و إلى الرطوبة الجلدية وقعت إشارته ع بقوله ينظر بشحم. و أما الكلام فمحله اللسان عند قوم و قال قوم ليس اللسان آلة ضرورية في الكلام لأن من يقطع لسانه من أصله يتكلم و أما إذا قطع رأسه لم يتكلم قالوا و إنما الكلام شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 104باللهوات و على كلا القولين فلا بد أن تكون آلة الكلام لحما و إليه وقعت إشارة أمير المؤمنين ع و ليس هذه البنية المخصوصة شرطا في الكلام على الإطلاق لجواز وجوده في الشجر و الجماد عند أصحابنا و إنما هي شرط في كلام الإنسان و لذا قال أمير المؤمنين اعجبوا لهذا الإنسان. فأما السمع للصوت فليس بعظم عند التحقيق و إنما هو بالقوة المودعة في العصب المفروش في الصماخ كالغشاء فإذا حمل الهواء الصوت و دخل في ثقب الأذن المنتهي إلى الصماخ بعد تعويجات فيه جعلت لتجري مجرى اليراعة المصوتة و أفضى ذلك الصوت إلى ذلك العصب الحامل للقوة السامعة حصل الإدراك و بالجملة(19/73)


فلا بد من عظم لأن الحامل اللحم و العصب إنما هو العظم. و أما التنفس فلا ريب أنه من خرم لأنه من الأنف و إن كان قد يمكن لو سد الأنف أن يتنفس الإنسان من الفم و هو خرم أيضا و الحاجة إلى التنفس إخراج الهواء الحار عن القلب و إدخال النسيم البارد إليه فجعلت الرئة كالمروحة تنبسط و تنقبض فيدخل الهواء بها و يخرج من قصبتها النافذة إلى المنخرين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 9105إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى قَوْمٍ أَعَارَتْهُمْ مَحَاسِنَ غَيْرِهِمْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُمْ سَلَبَتْهُمْ مَحَاسِنَ أَنْفُسِهِمْ(19/74)

60 / 150
ع
En
A+
A-