هذا الكلام لا نظير له في شرفه و علو معناه و ذلك أن القرآن كثير الاشتباه فيه مواضع يظن في الظاهر أنها متناقضة متنافية نحو قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ و قوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و نحو قوله وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ و قوله وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى و نحو ذلك و هو كثير جدا و أما السنة فليست كذلك و ذلك لأن الصحابة كانت تسأل رسول الله ص و تستوضح منه الأحكام في الوقائع و ما عساه يشتبه عليهم من كلامهم يراجعونه فيه و لم يكونوا يراجعونه في القرآن إلا فيما قل بل كانوا يأخذونه منه تلقفا و أكثرهم لا يفهم معناه شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 72لا لأنه غير مفهوم بل لأنهم ما كانوا يتعاطون فهمه إما إجلالا له أو لرسول الله أن يسألوه عنه أو يجرونه مج الأسماء الشريفة التي إنما يراد منها بركتها لا الإحاطة بمعناها فلذلك كثر الاختلاف في القرآن و أيضا فإن ناسخه و منسوخه أكثر من ناسخ السنة و منسوخها و قد كان في الصحابة من يسأل الرسول عن كلمة في القرآن يفسرها له تفسيرا موجزا فلا يحصل له كل الفهم لما أنزلت آية الكلالة و قال في آخرها يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا سأله عمر عن الكلالة ما هو فقال له يكفيك آية الصيف لم يزد على ذلك فلم يراجعه عمر و انصرف عنه فلم يفهم مراده و بقي عمر على ذلك إلى أن مات و كان يقول بعد ذلك اللهم مهما بينت فإن عمر لم يتبين يشير إلى قوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا و كانوا في السنة و مخاطبة الرسول على خلاف هذه القاعدة فلذلك أوصاه علي ع أن يحاجهم بالسنة لا بالقرآن. فإن قلت فهل حاجهم بوصيته. قلت لا بل حاجهم بالقرآن مثل قوله فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها و مثل قوله في صيد المحرم يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ(19/55)
مِنْكُمْ و لذلك لم يرجعوا و التحمت الحرب و إنما رجع باحتجاجه نفر منهم. فإن قلت فما هي السنة التي أمره أن يحاجهم بها. قلت كان لأمير المؤمنين ع في ذلك غرض صحيح و إليه أشار و حوله كان يطوف و يحوم و ذلك أنه أراد أن يقول لهم
قال رسول الله ص علي مع الحق و الحق مع علي يدور معه حيثما دار
و قوله اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله
و نحو ذلك من الأخبار التي شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 73كانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه ص و قد بقي ممن سمعها جماعة تقوم الحجة و تثبت بنقلهم و لو احتج بها على الخوارج أنه لا يحل مخالفته و العدول عنه بحال لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم و أغراض أى أرفع و أعلى منهم فلم يقع الأمر بموجب ما أراد و قضي عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم و كان أمر الله مفعولا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7874- و من كتاب له ع أجاب به أبا موسى الأشعريعن كتاب كتبه إليه من المكان الذي اتعدوا فيه للحكومة و ذكر هذا الكتاب سعيد بن يحيى الأموي في كتاب المغازي(19/56)
فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَغَيَّرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ حَظِّهِمْ فَمَالُوا مَعَ الدُّنْيَا وَ نَطَقُوا بِالْهَوَى وَ إِنِّي نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَنْزِلًا مُعْجِباً اجْتَمَعَ بِهِ أَقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَ أَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ يَعُودَ عَلَقاً يَعُودُ وَ لَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص وَ أُلْفَتِهَا مِنِّي أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ وَ كَرَمَ الْمَآبِ وَ سَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي وَ إِنْ تَغَيَّرْتَ عَنْ صَالِحِ مَا فَارَقْتَنِي عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعَقْلِ وَ التَّجْرِبَةِ وَ إِنِّي لَأَعْبَدُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِبَاطِلٍ وَ أَنْ أُفْسِدَ أَمْراً قَدْ أَصْلَحَهُ اللَّهُ فَدَعْ عَنْكَ مَا لَا تَعْرِفُ فَإِنَّ شِرَارَ النَّاسِ طَائِرُونَ إِلَيْكَ بِأَقَاوِيلِ السُّوءِ وَ السَّلَامُ(19/57)
روي و نطقوا مع الهوى أي مائلين مع الهوى. و روي و أنا أداري بالراء من المداراة و هي الملاينة و المساهلة. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 75و روي نفع ما أولى باللام يقول أوليته معروفا. و روي إن قال قائل بباطل و يفسد أمرا قد أصلحه الله. و اعلم أن هذا الكتاب كتابن شك في أبي موسى و استوحش منه و من قد نقل عنه إلى أبي موسى كلاما إما صدقا و إما كذبا و قد نقل عن أبي موسى إليه كلاما إما صدقا أيضا و إما كذبا قال ع إن الناس قد تغير كثير منهم عن حظهم من الآخرة فمالوا مع الدنيا و إني نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا بكسر الجيم أي يعجب من رآه أي يجعله متعجبا منه. و هذا الكلام شكوى من أصحابه و نصاره من أهل العراق فإنهم كان اختلافهم عليه و اضطرابهم شديدا جدا و المنزل و النزول هاهنا مجاز و استعارة و المعنى أني حصلت في هذا الأمر الذي حصلت فيه على حال معجبة لمن تأملها لأني حصلت بين قوم كل واحد منهم مستبد برأي يخالف فيه رأي صاحبه فلا تنتظم لهم كلمة و لا يستوثق لهم أمر و إن حكمت عليهم برأي أراه أنا خالفوه و عصوه و من لا يطاع فلا رأي له و أنا معهم كالطبيب الذي يداوي قرحا أي جراحة قد قاربت الاندمال و لم تندمل بعد فهو يخاف أن يعود علقا أي دما. ثم قال له ليس أحد فاعلم أحرص على ألفة الأمة و ضم نشر المسلمين. و أدخل قوله فاعلم بين اسم ليس و خبرها فصاحة و يجوز رفع أحرص بجعله صفة لاسم ليس و يكون الخبر محذوفا أي ليس في الوجود رجل. و تقول قد وأيت وأيا أي وعدت وعدا قال له أما أنا فسوف أفي بما وعدت و ما استقر بيني و بينك و إن كنت أنت قد تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 76فإن قلت فهل يجوز أن يكون قوله و إن تغيرت من جملة قوله فيما بعد فإن الشقي كما تقول إن خالفتني فإن الشقي من يخالف الحق. قلت نعم و الأول أحسن لأنه أدخل في مدح ير المؤمنين ع كأنه يقول أنا أفي و إن كنت لا تفي و الإيجاب يحسنه(19/58)
السلب الواقع في مقابلته
و الضد يظهر حسنه الضد
ثم قال و إني لأعبد أي آنف من عبد بالكسر أي أنف و فسروا قوله فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ بذلك يقول إني لآنف من أن يقول غيري قولا باطلا فكيف لا آنف أنا من ذلك لنفسي ثم تختلف الروايات في اللفظة بعدها كما ذكرنا. ثم قال فدع عنك ما لا تعرف أي لا تبن أمرك إلا على اليقين و العلم القطعي و لا تصغ إلى أقوال الوشاة و نقلة الحديث فإن الكذب يخالط أقوالهم كثيرا فلا تصدق ما عساه يبلغك عني شرار الناس فإنهم سراع إلى أقاويل السوء و لقد أحسن القائل فيهم
أن يسمعوا الخير يخفوه و إن سمعوا شرا أذاعوا و إن لم يسمعوا كذبوا
و نحو قول الآخر
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا و إن ذكرت بخير عندهم دفنوا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7977- و من كتاب كتبه ع لما استخلف إلى أمراء الأجنادأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ وَ أَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ
أي منعوا الناس الحق فاشترى الناس الحق منهم بالرشى و الأموال أي لم يضعوا الأمور مواضعها و لا ولوا الولايات مستحقيها و كانت أمورهم الدينية و الدنياوية تجري على وفق الهوى و الغرض الفاسد فاشترى الناس منهم الميراث و الحقوق كما تشترى السلع بالمال. ثم قال و أخذوهم بالباطل فاقتدوه أي حملوهم على الباطل فجاء الخلف من بعد السلف فاقتدوا بآبائهم و أسلافهم في ارتكاب ذلك الباطل ظنا أنه حق لما قد ألفوه و نشئوا و ربوا عليه. و روي فاستروه بالسين المهملة أي اختاروه يقال استريت خيار المال أي اخترته و يكون الضمير عائدا إلى الظلمة لا إلى الناس أي منعوا الناس حقهم من المال و اختاروه لأنفسهم و استأثروا به
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 79باب الحكم و المواعظ(19/59)