فلما أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة فأتاه بها و قدم معه إلى المدينة. و في تاريخ أبي جعفر الطبري من هذا الكثير الواسع و كذلك في تاريخ غيره من التواريخ و هذا أمر معلوم باضطرار لا يجوز لأحد أن يخالف فيه فأما قوله كيف يصح ذلك و قد قال لهم أبو بكر إذا أذنوا و أقاموا كإقامتكم فكفوا عنهم فجعل أمارة الإسلام و البراءة من الردة الأذان و الإقامة فإنه قد أسقط بعض الخبر قال أبو جعفر الطبري في كتابه كانت وصيته لهم إذا نزلتم فأذنوا و أقيموا فإن أذن القوم و أقاموا فكفوا عنهم فإن لم يفعلوا فلا شي ء إلا لغارة ثم اقتلوهم كل قتلة الحرق فما سواه و إن أجابوا داعية الإسلام فاسألوهم فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم و إن أبوا فلا شي ء إلا الغارة و لا كلمة. فأما قوله و كيف يطلق قاضي القضاة في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون و من جملتهم أصحاب مسيلمة و طحة فإنما أراد قاضي القضاة بأهل الردة هاهنا مانعي الزكاة لا غير و لم يرد من جحد الإسلام بالكلية. فأما قصة مالك بن نويرة و خالد بن الوليد فإنها مشتبهة عندي و لا غرو فقد اشتهت على الصحابة و ذلك أن من حضرها من العرب اختلفوا في حال القوم هل كان شرح نهج البلاغج : 17 ص : 213عليهم شعار الإسلام أو لا و اختلف أبو بكر و عمر في خالد مع شدة اتفاقهما فأما الشعر الذي رواه المرتضى لمالك بن نويرة فهو معروف إلا البيت الأخير فإنه غير معروف و عليه عمدة المرتضى في هذا المقام و ما ذكره بعد من قصة القوم صحيح كله مطابق لما في التواريخ إلا مويضعات يسيرة. منها قوله إن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات فإن ذلك غير منقول و إنما المنقول أنه نهى قومه عن الاجتماع في موضع واحد و أمرهم أن يتفرقوا في مياههم ذكر ذلك الطبري و لم يذكر نهيه إياهم عن الاجتماع على منع الصدقة و قال الطبري إن مالكا تردد في أمره هل يحمل الصدقات أم لا فجاءه خالد و هو متحير(18/193)
سبح. و منها أن الطبري ذكر أن ضرار بن الأزور قتل مالكا عن غير أمر خالد و أن خالدا لما سمع الواعية خرج و قد فرغوا منهم فقال إذا أراد الله أمرا أصابه قال الطبري و غضب أبو قتادة لذلك و قال لخالد هذا عملك و فارقه و أتى أبا بكر فأخبره فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه فيه عمر فلم يرض إلا أن يرجع إلى خالد فرجع إليه حتى قدم معه المدينة. و منها أن الطبري روى أن خالدا لما تزوج أم تميم بنت المنهال امرأة مالك لم يدخل بها و تركها حتى تقضي طهرها و لم يذكر المرتضى ذلك. و منها أن الطبري روى أن متمما لما قدم المدينة طلب إلى أبي بكر في سبيهم فكتب له برد السبي و المرتضى ذكر أنه لم يرد إلا في خلافة عمر. فأما قول المرتضى إن قول متمم لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 214لا يدل علردته فصحيح و لا ريب أنه قصد تقريظ زيد بن الخطاب و أن يرضي عمر أخاه بذلك و نعما قال المرتضى إن بين القتلتين فرقا ظاهرا و إليه أشار متمم لا محالة. فأما قول مالك صاحبك يعني النبي ص فقد روى هذه اللفظة الطبري في التاريخ قال كان خالد يعتذر عن قتله فيقول إنه قال له و هو يراجعه ما إخال صاحبكم إلا قال كذا و كذا فقال له خالد أ و ما تعده لك صاحبا و هذه لعمري كلمة جافية و إن كان لها مخرج في التأويل إلا أنه مستكره و قرائن الأحوال يعرفها من شاهدها و سمعها فإذا كان خالد قد كان يعتذر بذلك فقد اندفع قول المرتضى هلا اعتذر بذلك و لست أنزه خالدا عن الخطإ و أعلم أنه كان جبارا فاتكا لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب و هوى نفسه و لقد وقع منه في حياة رسول الله ص مع بني خذيمة بالغميصاء أعظم مما وقع منه في حق مالك بن نويرة و عفا عنه رسول الله ص بعد أن غضب عليه مدة و أعرض عنه و ذلك العفو هو الذي أطمعه حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح.
الطعن الثامن(18/194)
قولهم إن مما يؤثر في حاله و حال عمر دفنهما مع رسول الله ص في بيته و قد منع الله تعالى الكل من ذلك في حال حياته فكيف بعد الممات بقوله تعالى لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ. أجاب قاضي القضاة بأن الموضع كان ملكا لعائشة و هي حجرتها التي كانت شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 215معروفة بها و الحجر كلها كانت أملاكا لأزواج النبي ص و قد نطق القرآن بذلك في قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ و ذكر أن عمر استأذن عائشة في أن يدفن في ذلك الموضع و حتى قال إن لم تأذن لي فادفنوني في البقيع و على هذا اله يحمل ما
روي عن الحسن ع أنه لما مات أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله ص و إن لم يترك ففي البقيع(18/195)
فلما كان من مروان و سعيد بن العاص ما كان دفن بالبقيع و إنما أوصى بذلك بإذن عائشة و يجوز أن يكون علم من عائشة أنها جعلت الموضع في حكم الوقف فاستباحوا ذلك لهذا الوجه قال و في دفنه ع في ذلك الموضع ما يدل على فضل أبي بكر لأنه ع لما مات اختلفوا في موضع دفنه و كثر القول حتى روى أبو بكر عنه ص أنه قال ما يدل على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا فزال الخلاف في ذلك. اعترض المرتضى فقال لا يخلو موضع قبر النبي ص من أن يكون باقيا على ملكه ع أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة على ما ادعاه فإن كان الأول لم يخل أن يكون ميراثا بعده أو صدقة فإن كان ميراثا فما كان يحل لأبي بكر و لا لعمر من بعده أن يأمرا بدفنهما فيه إلا بعد إرضاء الورثة الذين هم على مذهبنا فاطمة و جماعة الأزواج و على مذهبهم هؤلاء و العباس و لم نجد واحدا منهما خاطب أحدا من هؤلاء الورثة على ابتياع هذا المكان و لا استنزله عنه بثمن و لا غيره و إن كان صدقة فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين و يبتاعه منهم هذا إن جاز الابتياع لما يجري هذا المجرى و إن كان انتقل في حياته فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله و الحجة فيه فإن فاطمة ع لم يقنع منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها و لا بشهادة من شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 216شهد لها فأما تعلقه بإضافة البيوت إليهن في قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فمن ضعيف الشبهة لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب أن هذه الإضافة لا تقتضي الملك و إنما تقتضي السكنى و العادة في استعمال هذه اللف فيما ذكرناه ظاهرة قال تعالى لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ و لم يرد الله تعالى إلا حيث يسكن و ينزلن دون حيث يملكن و ما أشبهه و أظرف من كل شي ء تقدم قوله إن الحسن ع استأذن عائشة في أن يدفن في البيت حتى منعه مروان و سعيد بن العاص لأن هذه مكابرة منه ظارة فإن المانع للحسن ع من ذلك لم يكن إلا عائشة و لعل من ذكره من(18/196)
مروان و سعيد و غيرهما أعانها و اتبع في ذلك أمرهما و روي أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل حتى قال ابن عباس يوما على بغل و يوما على جمل فكيف تأذن عائشة في ذلك و هي مالكة الموضع على قولهم و يمنع منه مروان و غيره ممن لا ملك له في الموضع و لا شركة و لا يد و هذا من قبيح ما يرتكب و أي فضل لأبي بكر في روايته عن النبي ص حديث الدفن و عملهم بقوله إن صح فمن مذهب صاحب الكتاب و أصحابه العمل بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة فكيف لا يعمل بقول أبي بكر في الدفن و هم يعملون بقول من هو دونه فيما هو أعظم من ذلك قلت أما أبو بكر فإنه لا يلحقه بدفنه مع الرسول ص ذم لأنه ما دفن نفسه و إنما دفنه الناس و هو ميت فإن كان ذلك خطأ فالإثم و الذم لاحقان بمن فعل به ذلك و لم يثبت عنه بأنه أوصى أن يدفن مع رسول الله ص و إنما قد يمكن أن يتوجه هذا الطعن إلى عمر لأنه سأل عائشة أن يدفن في الحجرة مع رسول الله ص و أبي بكر و القول عندي مشتبه في أمر حجر الأزواج(18/197)